سيارات صغيرة..وأحلام كبيرة..مصيرها القمامة

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 






        عندما كنت طفلا صغيرا لم أدخل المدرسة الابتدائية بعد ، اصطحبني والدي رحمه الله إلى محل كبير للعب الأطفال ، من أجل أن يشتري لي هدية لمناسبة عيد ميلادي، وجعلني أتجول أمام الرفوف الكثيرة المنتشرة في أرجاء المحل الكبير جدا، وأطن أن اسمه كان ( جنة الأطفال)..من أجل أن أختار هديتي بنفسي..فاستهوتني مجموعة كبير ة من السيارات الحديدية الصغيرة التي صنعت بحرفية عالية ، وكأنها سيارات حقيقية فعلا ولكنها بحجم مصغّر (مجسّمات)..لاحظ أبي وصاحب المحل أن هذه السيارات استهوتني، حيث أخذت الكثير من وقتي لأتمعّن فيها، وأجول بناظريّ بين الرفوف المخصّصة لها في الفاترينة الزجاجية العملاقة..كان سعر السيارة ربع دينار عراقي..وقيمة الدينار العراقي قي ذلك الوقت عالية جدا تكاد تكون اربعة دولارات أمريكية..أي أنّ ربع دينار عراقي قيمته دولارأمريكي..فما كان من صاحب المحل ( أرميني الأصل)  الذي كان صديقا لوالدي إلا أن يزوّدني بكتاب كبير، فيه كل موديلات هذه السيارات، وأرقامها، وتفاصيل عنها، وعن السيارات الحقيقية الأصلية ،التي صنعت على غرارها هذه المجسّمات.كانت كل السيارات جذّابة ومبهرة..فسألت أبي عن أيّهن أختار،فطلب مني أن أختار أربع سيارات دفعة واحدة..طرت فرحا..ولكنّ العجيب أنني أخترت من جميع هذه السيارات، أربع سيارات خدمية..سيارة إسعاف، سيارة شرطة،سيارة جمع النفايات،وتراكتور..استغرب أبي وصاحب المحل من اختياراتي..لكنهم في النهايةاستسلموا لرأيي ..عندما استلمت هديتي،أهداني صاحب المحل الكتاب أو الدليل الخاص بمجسمات السيارات هذه..بالنسبة إليه كانت هديّة بسيطة..لكنه لايعرف أنه بهذا الموقف والتصرف رسم مستقبلي ، وحدّد لي هدفي في الحياة. عندما عدت إلى البيت وأخرجت السيّارات من علبها الكرتونية الجميلة ، وتمعّنت في جودة صناعتها ، وفخامة منظرها،كأنها سيارات حقيقية، هنا أدركت أن الأفلام السينمائية ( الأكشن) التي كنت أشاهدها في تلك الفترة لسيارات تنقلب أو تنحرق، أو تتدحرج من الجبل، ماهي إلا سيارات صغيرة..لكنها مصوّرة بطريقة تجعلنا نصدّق أنها حقيقية. بدأت أتفرج على صور الموديلات الموجودة في الكتاب، ووضعت إشارات على عدد من الموديلات التي أعجبتني..وأريتها إلى أبي ، الذي كان يعمل في الكويت، بعد أن تقاعد من الجيش لأسباب صحية، نتيجة إصابته في رجله. ويأتي إلى بغداد كل بضعة أيام في إجازة..طلبت منه إن أراد أن يهديني هدية مستقبلا ، فعليه أن يختار لي سيّارة أو اثنتين من الموديلات التي حددتها له..ضحك كثيرا..لكنه وعدني خيرا..وفعلا بعد أقلّ من سنتين ..كنت قد جمعت مجموعة كبيرة من هذه السيارات..بعد فترة فوجئت أن صاحب المحل قد أغلق محلّه لسبب ما لاأعرفه..وبقيت أحتفظ بهذه السيارات ، ولم أسمح لأحد أن يلعب فيها، حتى إنني لم أخرجها من علبها..ومرت السنون تلو السنين، حتى دخلت إلى معهد الفنون الجميلة في بغداد لدراسة السينما ..مثلما خططت لذلك مذ كنت صغيرا..وتعرّفت على أصدقاء جدد يشاركونني أحلامي وأفكاري، من بين هؤلاء كان فلاح نجم الجبوري  وعلي إبراهيم إسماعيل..كنا ثلاثيا لانفترق ..وكنا بشكل يومي نخرج إما إلى حديقة الزوراء المقابلة للمعهد، أو إلى أسواق المنصور ونتجول فيها..حتى اكتشفت عندما دخلنا إلى ( أورزدي باك- الاسم القديم للأسواق المركزية ) المنصور الذي كان في بناية من ثلاثة طوابق أمام الريسز ..أن هذا السوق يبيع السيارات التي جمعتها وأنا صغير،ومازلت أحتفظ بها..وأخبرت صديقيّ بهذه القصة، كي لاأحرج أمامهما وأنا أشتريها من قسم لعب الأطفال ..وفعلا بدأت أضيف إلى مجموعة السيارات التي أحتفظ بها  موديلات جديدة..
 
من الدروس التي كنت أتلقيها في دراستي السينمائية درس  التصوير السينمائي ،وكان أستاذ هذه المادة هو  كوركيس يوسف..الذي أرفق صورته مع موضوعي هذا، والتي حصلت عليها بعد طول بحث خلال السنوات الماضية، من خلال صفحة فيس بوك أنشأها نجله ، ونشر فيها صورا قليلة وأعمالا قديمة للراحل. عندما  أخبرت الأستاذ كوركيس يوسف بقصّتي مع السيارات الصغيرة ..لم يصدّقني..فسأل مستغربا: هل مازلت تحتفظ بهذه السيارات طوال هذه السنوات؟..فأجبته نعم..لكي أستخدمها في تصوير مشاهد سينمائية بخدع التصوير..ضحك الاستاذ كوركيس وأخبرني أن هذا ممكن طبعا..ولكن ليس بهذه السهولة..إذ يحتاج أيضا إلى إمكانيات ..وأجهزة خاصة..ودراسة دقيقة..لايمكنني أن أتعلمها منذ السنة الاولى من دراستي السينمائية..ووعدني أنه سيحقّق حلمي خلال السنوات القادمة..ومرت السنة تلو السنة..ولم أستطع أن أحقّق حلمي في أن أستخدم هذه السيارات في تصوير فلم أكشن بخدع سينمائية ،كالتي كنت أشاهدها وأنا صغير..انقضت سنوات المعهد الخمس..ودخلت أكاديمية الفنون الجميلة..وتحيّنت الفرص كي أستخدم سياراتي الصغيرة في عمل سينمائي فخم..لكنني لم أفلح…تخرّجت في أكاديمة الفنون…بعد سنوات من احتفاظي بسياراتي ..فوجئت مرّة وأنا أرتّب حاجيات المنزل أن طفلي الصغير علي قد عبث بها..وأخرجها من علبها..وأصبحت بحالة يرثى لها،مع بقية ألعابه في صندايق بلاستيكية كبيرة..أخبرته أنّ هذه السيارات عزيزة عليّ منذ الصغر،وعليه أن يحافظ عليها كما حافظت عليها أنا عشرات السنوات.. لكنه لم يدرك قيمتها ،بعد أن كبر قليلا ، تخلّص من ألعاب الأطفال ،ومن بينها السيارات.. خسرت سياراتي..وضاعت ذكرياتي معها، ورمي الحلم في القمامة..حينها أدركت ، أن صناعة السينما في بلدي فقيرة..وهي مجرّد اسم للتباهي..فرقعة لإناء فارغ…حلم لايمكن أبدا أن يتحقّق..ولاأدري بالضبط ..لماذا خصّصت أقسام لدراسة السينما في معهد الفنون الجميلة ، وكلية الفنون الجميلة..مادام من يتخرج من هذه الأقسام، يزاول عملا آخر ، ليس له علاقة بالسينما.إلا بعض المحاولات الفردية..والاجتهادات الشخصية..والتجارب اليتيمة…هذه هي حكايتي مع سياراتي الصغيرة ، وأحلامي الكبيرة ..مارأيكم ..هل تصلح أن تكون قصة لفيلم سينمائي ؟؟ أكيد..بالمشمش.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *