رواية بوليسية للناشئة
المغامرون ..((أو فرقة المغامرين الخيرية)) ..هكذا يحلو لهم أن يسمّوا ..رغم أن أكبرهم لايتجاوز الخامسة عشرة ..في حين أن أصغرهم كان في العاشرة ..لكنهم سيكونون أبطال روايتنا هذا,وهذاما يستدعي منّا أن نلقي الضوء على جوانب من حياتهم قبل أن نخوض في سرد روايتنا (( المغامرون )) .
إنهم سبعة شباب,,وليسوا أطفالاً,لأنّ هذه الكلمة تثير غضبهم,وغضب أيّ فتى بمثل أعمارهم ..
كان مصعب ابن الرابعة عشرة شغوفاً بقراءة المغامرات البوليسية,ونادراً ماكانت تفوته قراءة رواية من روايات( أرسين لوبين),أو روايةمن روايات الكاتبة(أجاثاكريستي),أو أيةروايةبوليسيةعالمية,تماماًكماكان
عندماكان صغيراً,حتى تكلّلت هوايته هذه بالانخراط في سلك الشرطة,وبالتحديد في التحقيقات الجنائية.أما زينب الأخت الصغرى لمصعب فكانت لها اهتمامات أدبية..فهي تفرأ كثيرا جداً ولها محاولات بسيطة في كتابة القصص,والاحتفاظ بها على جهاز كومبيوتر وضعته في غرفتها,أمّاصالح شقيق مصعب والأصغر منه بسنتين وأكبر من أخته بسنة,فكان لايدري بالضبط مالذي يختاره من الهوايات ليحدّد على أساسه مستقبله,فمرّة تراه يختار كتاباً علمياً عندما يرافق شقيقه مع والدهما للمكتبة ويخيّرهما أي الكتب يختاران.وعندما يسأله صالح عن سبب اختياره هذا يبتسم مجيباً :
– أريد أن أواكب التكنولوجيا .
ومرّة تراه له اهتمامات موسيقية,ويستطيع أن يدندن بعض النغمات على البيانو الموضوع في بيت خالته أم طارق,التي تسكن في الشارع نفسه الذي يسكنونه.حيث إن ابن خالته طارق اشترط على أبيه أن يجلبه له بعد نجاحه بتفوق بالدراسة الثانوية. وخصوصا أن أباه ميسور الحال,ويملك شركة للمقاولات الهندسية,وهذا ماجعله يختار سكناً في حيّ راقٍ ,لايسكنه إلا المترفون .ومن وقتها راح طارق يجمع كلّ الأشرطة الصوتية الخاصة بالمقطوعات الموسيقية العالمية, من سمفونيات ومقطوعات أخرى لكبار الموسيقيين ,مثل باخ وموزارت وبتهوفن وشتراوس..ويشجّع ابن خالته صالح لأن يحذو حذوه ..فكان صالح يسايره..ولكنّه سرعان ماينسى كلّ شيء, بمجرّد خروجه من بيت خالته..وينصرف إلى اهتمامات أخرى, بعيدةكلّ البعد عن الموسيقى..أمّا زياد شقيق طارق فكانت هوايته تنصبّ في التصويرالفوتوغرافي, حيث يملك جميع المعدّات اللازمة, من كاميرا وكومبيوتر وطابعة ,وأوراق وأحبار خاصة بالطباعة,كما يملك ألبومات جمع فيها عدداً لابأس به من الصورالفوتوغرافية,التي التقطها لمناظركثيرة,في أثناء زيارته لها خلال الرحلات المدرسية,حتى إنه شارك فيها بمعارض أقامتها المدرسة,ونال عنها جوائز كثيرة.
أما هواية كرة القدم فكانت من نصيب عبد العزيز,ابن عم مصعب وصالح وزينب. ذي الخامسة عشرة من العمرووالده هو شقيق النقيب ياسر,ويعمل مهندساً مدنياً في الشركة التي يملكها ويديرها أبو طارق الذي تربطه بالعائلة علاقة نسب ..في حين كانت مشاهدة أفلام الرعب أو كما تسمّي بعضها( أفلام الأكشن)هي الهواية المفضّلة( لمحبّة) أخته,ويبدو أن هذا الشيء هو ماجعل شخصيتها قويّة,رغم أنها لم تتجاوز الحادية عشرة .
إذن..مصعب وصالح وزينب من جهة,وطارق وزياد من جهة أخرى,وعبدالعزيز ومحبّةفي جهة أخرى,كلّهم حين يجتمعون في مكان ما,تقول عوائلهما أنّ ((فرقة المغامرين)) قد اجتمعت,رغم أنّ أهواءهم مختلفة,لكنّ روح المغامرة هي القاسم المشترك الذي كان يجمعهم .
في إحدى ليالي الصيف المقمرة,وبينماكان مصعب وأخوه صالح يستعدّان للنوم. سمعاصوت جلبة في الخارج… فتح مصعب نافذة الغرفة ,ليطلّ برأسه ..مستكشفاً مايحدث قائلاً:
– اللّهم اجعله خيراً ..
اقترب منه صالح مستفسراً:
– ماذا حدث ؟..
ولمّا لم يستطع أحد منهما تبيّن مايحدث في الخارج,اضطرّا للنزول من غرفتهما التي في الطابق الثاني من المنزل, ليفاجآ بأن والديهما أيضاً يقفان عند باب البيت الرئيسي,حيث لاحت لهم من بعيد جموع الناس المحتشدة,من أجل شيء ما.. ثم شمّوا رائحة شيء يحترق,دفع الفضول مصعب وصالح أن يسيرا بضعة أمتار باتجاه مايحدث, بعد أن استئذنا والديهما بذلك ..وعندما صارا على مقربة من الشارع المجاورشاهدا من بعيد ألسنة اللّهب تتصاعد من إحدى بناياته الفخمة.استغرب مصعب مما رآه فقال:
– ياه !..حريق هائل !! .
تمتم صالح:
– ياساترياربّ !!.
وصارا يقتربان من موقع الحدث شيئاً فشيئاً .حتى صاح مصعب :
– زياد وطارق هنا أيضاً ؟ !.
راح زياد يفرك عينيه من أثر النعاس وهو يقول مفسّراً لابني خالته مايحدث:
– إنه مركز طبّ الأسنان..في الشارع المجاور ..
ثم تثاءب أخوه طارق الذي خرج من منزله بثياب النوم قائلاً:
-لم نستطع النوم..فخرجنا لنعرف ما حدث..
مدّ زياد يده في جيب ثوبه,ليخرج منه كاميرته الصغيرة الجديدة,والتي لم يمض أسبوعان على تدشينها..ثم قال:
– سأوثّق الحدث بالصور، لذلك.. علينا أن نقترب من المكان..
أجابه مصعب:
لاأظن أنّ باستطاعتك التصوير في مثل هذا الجوّ المظلم ..
فأجابه زياد:
– لاياعبقريّ..فهذه الكاميرا رقمية ..وباستطاعتها أن تلتقط أيّ صورة في أي ظرف..أي أنها تحتوي على عقل ألكتروني .يبرمجها كيفما يريد .
ثم نظر إلى صالح وقال له:
– يبدو أنّ صاحبنا بعيد كل البعد عن التكنولوجيا ..أفهمه ياصالح ..
ضحك مصعب قائلاً:
– أرِنا كيف ستنفعك التكنولوجيا,عندما تمنعك الشرطة من التصوير ..
غيّر زياد من نبرته ..وقال بجدّية :
– هذا بحث آخر ..
ثم قال ضاحكاً:
– إنما عنيت إمكانية التصوير الفنيّة وليست الأمنيّة ..
ثم قال طارق وهو يحثّ الأصدقاء للتقدّم أكثر من الموقع قائلاً:
– لا أظنّهم يسمحون لنا بذلك..
أجاب صالح:
– لنجرّب…
ثم راحوا جميعاً يقتربون من موقع الحريق شيئاً فشيئاً , كانت سيارة الإطفاء الكبيرة تقف قبالة المركز..وراح رجال الإطفاء ينتشرون في كل مكان. في محاولة منهم للسيطرة على الحريق..وماهي إلا لحظات قليلة,حتى وصلت سيارة إطفاء أخرى ..تتبعها سيارة إسعاف تحسّباً لوقوع حوادث نتيجة اشتعال النيران . أرادوا التقدم أكثر, لكنّ أفراد الشرطة منعتهم من ذلك ..
انبعث صوت رجل من أفراد الشرطة من مكبّر الصوت المثبّت في سقف سيارة الشرطة ..يقول:
– ابتعدوا عن المكان رجاءً.. ابتعدوا..
لكنّ زياد كان يتمتم مع نفسه:
– لابدّ من أخذ صورة..
وحاول خلسة أن يلتقط صورة ولو عن بعد لهذا المنظر المروّع ..بعد أن وضع خيار التصوير على التصويراللّيلي ..تقدّم بضعة أمتار ..لكنّ رشقات خاطئة من الماء المتدفّق بغزارة ,كادت تسقط الكاميرا من بين يديه ..صاح أخوه طارق:
– احترس يا زياد ..
أما صالح ومصعب.. فكانا يقتربان من الناس المتحلّقة حول الموقع ,في محاولة لمعرفة أسباب اندلاع الحريق,ومصير من فيه,لكنّهما اطمئنا إلا أن أحدا لم يكن داخله عندما شبّت النيران في المركز.
وفي هذه الأثناء..وصلت سيارة مرسيدس سوداء,يقودها شخص ذو ملابس أنيقة, تحمل حقائب في أعلاها,وكانت مسرعة باتجاه الشارع المجاور,لكن منظر الناس المحتشدة جعلتها تتوقف, وإذا به الدكتور لطفي,صاحب المركز الطبي..نزل صارخاً:
– ياإلهي!! ..مالذي يحدث؟؟ ..
ثم نزلت زوجته الدكتورة مينا وهي أجنبية ..لاتجيد العربية باستثناء بعض المفردات.. وانفجرت في بكاء مصحوب برعب وخوف . وتحلّق الناس حول السيارة التي أقلّت الدكتورلطفي وزوجته,الواصلين توّاً من المطار,بعد سفرة خارج لبلد قضياها بصحبة ابنهم في أوربا,استغرقت أسبوعاًكاملاً..في محاولة لتهدئتهما ومواساتهما على مصيبتهما..قال أحدهم:
– الحمد لله أن الحادث صار في الليل وليس في النهار.
وقال آخر:
– لقد أنجاكم المنجي ..
وردّ الأخر :
– حمدا لله على سلامتكم ..
لكنّ الدكتور لطفي ..سقط على ركبتيه ..وراح يلطم على رأسه من غير شعور منه ..وهو يولول:
– ياللمصيبة..ياللمصيبة.!!ضاع كلّ شيء..ضاع تعب العمر..ضاع كلّ شيء..
كان منظراً مؤثرّاً في نفوس المحتشدين من حوله..مما دعى أحد رجال الإطفاء للاقتراب منه ومواساته ..أمسك بإحدى يديه وأنهضه من الأرض ..وهو يقول:
– تحلَّ بالصبر يادكتور.فقد استطعنا أن نحصرالنيران في الطابق السفلي فقط.
لكن الدكتور لطفي ماانفكّ يردّد:
– ضاع كلّ شيء ..ضاع كلّ شيء.
هزّ رجل الإطفاء رأسه قائلاً:
– لا حول ولا قوّة إلا بالله..
ثم اقترب منهما رقيب الشرطة ..مزيحاً الناس من أمامه :
– تفرّقوا من فضلكم..سيكون كل شيء على ما يرام .
وعندما صار قريباً من الدكتور لطفي ..قال الرقيب:
– لقد تأكّد لنا يادكتورأنّ الحريق قد تمّ بفعل فاعل,لذلك نرجو أن تحضرصباح الغد إلى المخفر لتسجّل إفادتك.
وضع الدكتور لطفي يده على جبينه..وراح يفركه بشكل لاإرادي,حتى استقرّت يداه على عينيه ..فأغلقهما وراح يستمع بيأس إلى كلام الشرطي,وهو يهزّ رأسه,بعد أن استوعب الموقف تماماً .بينما راحت زوجته الدكتورة مينا تنحب بكلمات وعبارات لايفهما من حولها…
كان مصعب وصالح وطارق وزياد يقفون على مسافة بضعة أمتار,واستطاعوا أن يسمعوا كلّ مادار من حديث مع الدكتور لطفي,ورغم أنهم لم يكونوا على علاقة مباشرة مع عائلة الدكتور لطفي هذا,الذي يسكن في بيت فخم خلف مركزه الطبي,لعدّة أسباب منها: أنه معروف عنه تكبّره على جيرانه وأقاربه, وارتفاع الأجور التي يتقاضاها في مركزه الطبي,الذي يحوي على عيادات لطب وجراحة الأسنان, ويعمل به تحت إدارته عدد من الأطباء,أمّا ابنه فهو يكبرهم سنًاّ كثيراً ..ويدرس الطبّ خارج البلد منذ ثلاث سنوات تقريباً..إلا أنهم وبرغم ماتقدّم . تأثّروا كثيراً بكلّ ماسمعوه …
بدأت جموع الناس تتفرّق إلى حال سبيلها ..وهمّ الأصدقاء بمغادرة المكان ..فقال مصعب:
– هل سمعتم ما سمعته ؟.
أجاب زياد:
– نعم..الحادثةصارت بفعل فاعل.. يعني أن هناك جريمة..
وقال طارق:
– ويعني أيضاً..أن هناك من دبّر لهذه الجريمة..
سأل صالح بصوت مرتفع وكأنه اكتشف مايعنيه الأصدقاء:
– يعني..مغامرة جديدة؟؟..
فما كان من مصعب إلا أن يضع يده على فمه..قائلاً:
– هسس..اسكت لئلاّ تفضحنا ..فهذا الرقيب يعمل مع عمّي ياسر في الشرطة,وإذا عرف عمي بنيّتنا هذه ضاعت عليناالمغامرة ..
ودّع أولاد الخالة بعضهم البعض,على أمل اللقاء صباح اليوم التالي,في منزل مصعب.. واتّفقوا على أن يقوم زياد بتبليغ صديقهم عبدالعزيز..وهو ابن عم مصعب وصالح,لكنه صديق مقرب من زياد.وانصرفواكلّ إلى بيته,بعد أن كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل.
* * *
العاشرة من صباح اليوم التالي
بصعوبة نهض مصعب من نومه,بسبب السهر وإرهاق التفكير بالمغامرة الجديدة ,طوال الليلة الماضية. وهاهو الآن يجلس برفقة أخيه صالح وأخته زينب, بعد أن تناولوا طعام الإفطار.بانتظار حضور البقية .
نظر إلى ساعته ..إنها العاشرة صباحاً. وهو الموعد الذي حدّدوه للقائهم .ما إن رفع رأسه حتى رأى ابن عمّه عبدالعزيز مع أخنه محبّة , وهما يدخلان من الباب الرئيسي للبيت , ويتوجّهان إلى الحديقة ,حيث يجلس مصعب بانتظارهما .
– السلام عليكم ..كيف حالكم؟؟..
– وعليكم السلام ..أهلاً وسهلاً….
جلس عبد العزيز قريباً من مصعب..بينما جلست محبة إلى جانب زينب..وبعد أن التقط عبدالعزيز أنفاسه وجه حديثه إلى مصعب:
– أخبرنا زياد عن هذا اللقاء..وهو وطارق في طريقهما إلينا..
وضع مصعب رجله فوق الأخرى ..وقال بنبرة القائد:
– إذن..سنؤجّل الحديث وتوزيع المهمّات ريثما يحضران..فأمامنا مغامرة جديدة..
سأل عبد العزيز:
– ولكن أرجو أن تنتهز هذه الفرصة, لتحكي لنا ماحدث في الليلة الماضية ,لأنني لم أفهم شيئاً من زياد أبداً, عندما هاتفني صباح اليوم .
ضحك مصعب ..وراح يقصّ ماسمعوه وشاهدوه ليلة أمس.
بعد دقائق قليلة كان الجميع قد حضر إلى بيت مصعب,قال زياد بعد أن رشف من قدح العصير رشفة سريعة:
– نعتذر عن التأخير..لأنّني كنت منشغلاً منذ الصباح الباكر,بطباعة الصور التي التقطناها بالأمس.
داعبته زينب يضحكة ساخرة:
– يظنّ نفسه مصوّراً ماهراً…..
ضحك الجميع, بعدها راح زياد يطلعهم على مهارته بالتصوير,خصوصاً بعد أن كانت نتيجة تصويره في العتمة ممتازة ,وأعجب الجميع بالصور, التي طبعها بنفسه على آلة الطابعة المرتبطة بجهاز الكومبيوتر. ثم أشار مصعب لأصدقائه بأن يتحلّقوا حوله, ويكونوا أكثر دنوّاً منه,وصار يخفّض من صوته, كي لايسمعه أحد من الجيران .. وقال بجديّة:
– فلنؤجّل مزاحنا قليلاً.. فوقت الجدّ قد بدأ منذ اللحظة..
أجابه زياد:
– وهذا ما دعانا للحضور والاجتماع في هذا المكان..
بدأ مصعب حديثه بالقول:
– اسمعوني يا أصدقاء..لقد تأكّد لنا أنّ الجريمة حدثت بفعل فاعل.لذلك يتوجّب علينا أن نبحث عمّن تحوم حولهم الشبهات..
قالت زينب:
– وهذا لن يتمّ إلا إذا عرفنا كلّ من له صلة بالدكتور لطفي .
أشار عبد العزيز بسبّابته قائلاً:
– لذلك..أقترح أن نزور المركز الطبي أولاً,علّنا نكتشف شيئاً,يرشدنا إلى شيء آخر يفيدنا في معرفة الحقيقة..
نظر مصعب إليه ..وهزّ رأسه قائلاً:
– وهذا ما سيحدث فعلاً. لذلك سترافقني أنت لدخول المركز..
ثم نظر إلى زياد وصالح ..وأردف قائلاً:
– أما زياد وصالح فسيظلان في الحديقة الخارجية للمركز ليراقبا المكان, ربما يكتشفان دليلاً يساعدنا في تقصّي الحقيقة.وإذا تطلب الأمرالدخول في منزل الدكتور, فسيتحجّجان بأيّ حجّة ليفعلا ذلك..
أما الأصغر في المجموعة , وهي محبّة ..فقد اقتربت أكثر من ابنة عمتها زينب,لتقول:
– أما أنا..فسأظلّ قرب الهاتف مع زينب.. لأردّعلى مكالماتكم في حالة ضرورة الاتصال .
ثم التفت ناحية طارق ..وقال له:
– وستبقى أنت يا طارق في البيت بانتظار مكالمة هاتفية مني..أخبرك فيها عن مهمّتك .
وضع طارق قبضة يده اليمين على صدره ..ونهض مغيّراً من نبرة صوته ..قائلاً:
– أنا حاضر للمهمّات الصعبة يا سيادة الضابط ..
ضحك مصعب ..وقال:
– سيتحقّق ذلك إن شاء الله ..
ثم نهض ..وطلب منهم النهوض قائلاً:
– والآن..هيا للانطلاق..
* * *
المهمّة بدأت
اقترب صالح ومصعب وزياد وعبد العزيز من المركز الطبّي لجراحة الأسنان.. الذي تحيط به حديقة عالية الأشجار من كل جوانبه..والذي أغلق أبوابه هذا اليوم,ولم يستقبل زبائنه إلى إشعار آخر,بسبب ما أصابه..وصاروا يدورون حوله ..سحب صالح نفساً عميقاً ..وقال:
– رائحة النار ما تزال موجودة..
ابتسم عبدالعزيز وهو يقول:
– هذه الرائحة تذكرني برائحة أجلدة الكتب النايلون. ..
لاحظ مصعب أن أوراقا قد تطايرت من المركز ..وتناثرت في كل مكان, قسم منها قد أكلته النيران..والآخر بين محترق وسليم.وأورق أخرى ماتزال النيران لم تمسسها…فخطرت بباله فكرة ..إذ قال:
– هذه الأوراق المتناثرة حول المركز ستكون سبباً لدخولنا إليه.
سأل صالح:
– كيف؟.
أجابه مصعب:
– سنتعاون على جمعها ..رغم أنها لاتنفعنا بشيء ..فعلى مايبدو أنها ملفّات قديمة ,أو أوراق تخصّ الحسابات ..لكنها حجّة للدخول.
ابتسم عبدالعزيز قائلاً:
– فكرة ممتازة…هيا إذن لنجمعها…
وخلال دقائق قليلة استطاع الأربعة أن يجمعوا كلّ ماتطاير وتبعثر من الأوراق ..نظر مصعب إلى عبدالعزيز, وهو يحتضن إلى صدره أوراقا مختلفة الألوان والأحجام..وقال:
– هيا يا عبدالعزيز..اتبعني لندخل من الباب الرئيس ..أما أنتما ياصالح وزياد .فانتظرانا في حديقة المركز.
تبعه عبدالعزيز ..وتوجّها إلى البوابة الرئيسة ..التي كانت ترتفع ثلاث درجات عن المدخل الرئيس ..كان الباب الزجاجي مغلقاً. لكن لم يبقَ منه أيّ زجاج سليم ..كلّه قد تكسّر من أثر الحرارة العالية الناتجة من الحريق.لكنّهما لاحظازرّ جرس يمين الباب ..وفوقه عبارة..بصعوبة استطاعا أن يقرآها, بسبب اسودادها وتعرّضها للأدخنة: ((أخي الزائر ..اضغط زرّ الجرس ..نحن في خدمتك 24 ساعة)) .
رنّ الجرس..الحمد لله إذن الكهرباء ماتزال موجودة.. وإذا بموظفة الاستقبال ليلى,تخرج من إحدى غرف المركز المنتشرة على جانبي ممرّ طويل ..وعندما لمحت الصديقين الواقفين عند الباب, راحت تؤشّر بكفيها بالنفي وهي تقول بصوت مرتفع:
– المركزمغلق لمدة أسبوع في الأقل.
هزّ مصعب رأسه..وهو يحاول أن يتكلّم بصوت مرتفع أيضاً كي تسمعه الموظفة من بعيد:
– نعرف ذلك , جئنا لنساعد .
ابتسمت الموظفة ثم تقدّمت نحو الباب..وعندما صارت قريبة منه .لاحظت الأوراق التي يحتضنها الصديقان .ففتحت لهما الباب .وقالت مبتسمة:
– أهلاً وسهلاً بكما..وشكراً لكما.. فلربّما تكون أوراقاً مهمّة للمركز..
أجابها مصعب وهو يضع الأوراق على مكتب الموظفة :
– وهذا كان رأينا أيضاً..
قالت الموظفة:
– آسفة لاأستطيع أن أقوم بواجب الضيافة ,لأنكما بالتأكيد تعرفان الوضع الذي نحن فيه الآن . ولكن أرجو أن تستريحا قليلاً, لأنكما تلهثان من التعب.
قال مصعب:
– لايهمّ ..فنحن نعرف أنكم بصدد إعمار ما أصاب المركز.
أجابت الموظفة:
– لا..فقد طلبت منّا الشرطة أن نترك كلّ شيء على ماهو عليه, ريثما ينتهي التحقيق.وبعدها يتم إعمار المركز ..
سألها عبدالعزيز متظاهراً بعدم معرفة ماتقصده الموظفة:
– تقولين تحقيق؟؟لماذا؟.
أجابته ليلى:
– لأنهم.. أي الشرطة.. اكتشفوا أن الحريق صار بفعل فاعل..أي أن هناك يداً خبيثة ارتكبت الجريمة.
نظر عبدالعزيز إلى مصعب وهو يهزّ رأسه, وكأنه أدرك ماتعنيه ليلى ,ثم قال مجاملاً:
– للأسف ..فبالتأكيد هي خسارة فادحة للدكتور لطفي.
أجابت ليلى بعد أن سبقت كلامها حسرة طويلة:
– بل قل خسارتين .
لم بفهم الصديقان ماتعنيه الموظفة ..فتشجّع مصعب أن يسأل:
-لم نفهم ماتعنيه!! ..
أردفت ليلى:
– لأننا كنّا قبل أسبوعين تقريباً من الحادث قد انتهينا للتوّ من إجراء صيانة كاملة على المركز, وقمنا بدهن جدرانه,وعمل ديكورات جديدة لردهاته ومرافقه المختلفة .مما اضطرّنا أن نغلق المركز ريثما تنتهي هذه الأعمال ,وهذا ماشجّع الدكتور لطفي على أن يتمتع بإجازة ,وعندما انتهينا من العمل قمنا بالاتصال به لنخبره بذلك…
سأل مصعب:
– يعني أنكم تعاونتم على القيام بهذه الأعمال ..أم ..
قاطعته ليلى ضاحكة:
– لا ..بل إن مكتب أعمال الديكور, هو الذي قام بكل شيء..فهذا عمل لايتقنه إلا المختصّون بهذه المهنة..
كان مصعب يتعمّد أن يكون أبله ,ليحصل على أكبر قدر ممكن من المعلومات ,لذلك سأل:
– مكتب ديكور!!؟ ..وهل هناك شيء اسمه مكتب ديكور.؟؟.
ابتسمت ليلى وهي تجيب:
– طبعا ..يبدو أنك لم تقرأ اللافتة الموضوعة على ذلك المحل الكبير(( اللمسة الأخيرة), الموجود في أول الشارع الرئيس؟. وهو نفس المكتب الذي قام بعمل الديكور في مركزنا.
هزّ مصعب رأسه قائلاً:
– ربما ..لكنّها لم تجذب انتباهي لأنها لاتعنيني..
استرسلت ليلى قائلة:
– فريق عمل متكامل جاء إلى هنا وباشر العمل ,وقام بإجراء ترميمات وأعمال صيانة كثيرة استغرقت أياماً, ولكن للأسف ضاعت الجهود من غير فائدة .وهانحن بحاجة لهذه الأعمال من جديد.
أدرك مصعب وعبدالعزيز أنّ المسألة ازدادت تعقيداً ,بعد أن دخل العمّال على الخطّ.وصارت المسألة بحاجة لتفكير عميق.
أما في الخارج, حيث زياد وصالح ينتظران في الحديقة الكبيرة التي تحيط بالمركز الطبي, والتي تبدو أشجارها قد احترقت, وتحوّلت الخضرة إلى السواد ..فيبدو أن زياد قد رأى شيئاً أثار انتباهه..إذ أشار بيده إلى شجرة ساقطة على الأرض, متيّبسة الأغصان ومتفحّمة.وقال موجّهاً كلامه لصالح:
- انظر هناك !! .
توجّه الصديقان ليصيرا قريبين من الشجرة اليابسة المحترقة . وراح مصعب يتفحّص الأرض المحيطة بها ,ثم أشار بإصبعه إلى آثار أقدام مطبوعة على الأرض, قائلاً:
– انظر!!.. إنها آثار أقدام واضحة..
أجاب زياد:
– نعم.. أثر نعل قديم.. فيه نقوش متميّزة!!.
ثم أخرج الكاميرا من جيب سترته,والتقط صورة مقرّبة لأثر القدم ..تلفّت صالح حواليه خوف أن يراهما أحد من المركز , وقال وهو مايزال يراقب المكان:
– ماذا تفعل ؟.
أجاب زيادوهو يكرّر التقاط أكثر من صورة من جهات مختلفة:
– هذه الصورستفيدنا بالتأكيد…
بعد أن انتهى زياد من التقاط صوره,وبعد أن أدرك الصديقان أنّ لاأحداً يراقبهما ,جلسا قرب الشجرة,بحجّة انتظار صديقيهما ..قال زياد :
– يبدو أنّ شخصاً ماكان مختبئاً خلف هذه الشجرة…ظلّ يراقب المكان حتى سنحت له الفرصة ليشعل النار..
أجاب مصعب:
– نعم ..فآثار الأقدام تشير إلى أن صاحبها قد ظلّ جالساً هنا فترة طويلة.
ثم أضاف زياد:
– نعم ..هذا بالإضافة إلى أن آثار الأقدام هذه ,وحسب خبرتي المتواضعة. لم يمضِ عليها سوى ساعات فليلة.
أما في الداخل فكان مصعب وعبدالعزيز مايزالان يحاولان الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات, التي تساعدهم في التوصّل إلى معرفة الجاني.وهاهي موظفة الاستقبال تواصل إدلاءها من غير قصد بمعلومات مهمّة:
– لاأدري ماذا حصل للدكتورلطفي هذه الأيام..فقد تشاجر مع أكثر من شخص.ومنهم البستاني الذي يعتني بحدائق المركز. وكذلك مع الدكتورأسعد أحد الأطباءالعاملين في المركز, بعد أن طرده من عمله.. وتخاصم مع الأستاذعادل المحاسب أيضاً.لذلك قرّر أن يسافر خارج البلد للراحة والاستجمام..وعندما عادكان قد حصل ما حصل..
انشغلت ليلى بتوظيب الأوراق التي أخذتها للتوّ من الصديقين , بينما راح عبدالعزيز يهمس في إذن صاحبه:
– أسمعت يا مصعب؟..ثلاثة أشخاص تحوم حولهم الشكوك .
أجاب مصعب هامساً:
– سنحاول أن نعرف منها أين نجد كلاً من هؤلاء الثلاثة..لنتحرّك بعدها لاكتشاف الفاعل ..
وفعلاً استطاع مصعب وعبدالعزيز بدهائهما, أن يحصلا على عناوين الثلاثة المشتبه بهم..وشكرا ليلى على حسن استقبالها لهما, رغم الظروف التي ألمّت بالمركز الطبي الذي تعمل فيه.وبينما هما في طريقهما للخروج من الباب الزجاجي الرئيس , وإذا بالدكتور لطفي يفتح الباب بشدة, ليدخل إلى المركز قاطعاً طريقهما, وهو متجهّم الوجه وإلى جانبه الدكتورة مينا, وخلفهما تمشي سيدة ترتدي مريولاً أزرق…
– ماهذا ؟! ومن هم هؤلاء الأولاد ؟ كيف سمحت لنفسك بأن تدخليهما. ألم أقل إن اليوم عطلة؟ ها؟
قالها الدكتور لطفي بعصبية ,موجّهاً كلامه لموظفة الاستقبال.فماكان من ليلى إلا أن تردّ عليه بارتباك:
– عفواً يا دكتور.. ولكن..
لكنّ مصعب تدارك الأمر بقوله:
– رأينا حول المركز بعض الأوراق المتناثرة..فجلبناها لكم كي لاتتطاير مع الهواء ..فربما تكون مهمة..
وقال عبدالعزيز:
– ونعتذر إن كنا قد ضايقناكم دكتور.
أرادت ليلى مداراة الموقف , فقالت:
– دكتور لطفي يمزح معكما..أنتم أولاد رائعون..
كان الدكتور لطفي متعكّر المزاج , وفي حال من العصبية جعلته يدفع مصعب وعبدالعزيز إلى الخارج قائلاً:
– شكراً مع السلامة. لاتتأخّرا أكثر من ذلك, فقد يقلق عليكما أهلكما.
وجد الصديقان نفسيهما فجأة في الخارج , والباب تغلق بعنف خلفهما .قال عبدالعزيز منزعجاً:
– سامحه الله على هذا التصرف..
أما مصعب فقد كان يقف واجماً مفكّرا ً..سأله عبدالعزيز:
– مابالك تفكر ؟؟ هيا.. ماذا تنتظر؟.
أجاب مصعب:
– لاأدري أين رأيت وجه السيدة التي ترافقهما ..كانت تنظر إلينا بعين العطف .
أجاب عبدالعزيز:
– تقصد الخادمة ؟.
سأل مصعب:
– مصعب: أهي خادمة ؟؟.
أجاب عبدالعزيز:
– طبعاً. ألم تلاحظ أنها ترتدي زيّ الخدم ؟..إنها خادمة منزلهم..
نزل مصعب من الدرج مسرعاً وهو يقول:
– هيا بسرعة يا عبدالعزيز, لأتصّل بطارق وأكلّفه بمهمّة جديدة…
في الحديقة الخارجية كان صالح وزياد يقفان قريباً من الباب الخارجي بانتظار صديقيهما ..وعندما صار مصعب وعبدالعزيز قريبين منهما..قال زياد:
– وأخيراً حضرتما..لقد تأخّرتما كثيراً..
أجاب مصعب:
– أعرف ذلك, ولكنّنا حصلنا على معلومات مهمّة..
ردّ صالح مبتسماً:
– ونحن كذلك ..
أخرج مصعب من جيبه قصاصة الورق, التي سجّل عليها العناوين التي حصل عليها من موظّفة الاستقبال ..وتوجّه نحو كابينة الهاتف, الموجودة على بعد أمتار من الباب الخارجي للمركز ..وهو يقول:
– سنناقش كلّ المعلومات بعد أن أتصل بطارق.
اتصل مصعب بصديقهم طارق, الذي ينتظر في البيت لتكليفه بمهمّة حسب الاتفاق , وأعطاه عنوان منزل الدكتور أسعد, وطلب منه أن يتحرّك إليه فوراً.لكنّه لمح عند الباب الخارجي سيارة, يقف قربها رجل يرتدي ملابس أنيقة, ويضع على رأسه قبّعة زرقاء ..فسأل هامساً:
– من يكون ذاك الرجل؟.
أجاب صالح:
– إنه يرتدي الملابس الرسمية للسائق..
قال مصعب:
– تقصد أنه سائق ؟
أجاب صالح :
– ملابسه توحي بذلك ..
تمتم زياد :
– كأنني رأيت هذه السيارة من قبل .
هزّ مصعب رأسه مبتسماً:
– آه ..نعم ..تذكّرت. إنها سيارة الدكتور لطفي, التي شاهدناها ساعة اندلاع الحريق ..ويبدو أنّ هذا هو سائقه.
وعلى عجل تبادل الأصدقاء المعلومات التي حصلوا عليها ..وكانوا سعداء لأنهم استطاعوا أن يجمعوها بهذه السرعة ..قال زياد وهو يشير لكاميرته :
– سأذهب فوراً إلى بيتي, لأقوم بطبع الصور..وسأعود بعد نصف ساعة.لنلتقي في منزل مصعب في الحديقة..
فقال مصعب:
– طيّب ..ولكن أرجو أن تطبع أكثر من نسخة.
تركهم زياد وانصرف,وبعده بلحطات قصيرة ,لاحظ الأصدقاء خروج السيدة التي كانت ترافق الدكتور وزوجته من المركز ..
قال عبدالعزيز موجّها ًسؤاله لمصعب:
– هذه السيّدة التي كنت أخبرتنا أنّ وجهها ليس بغريب عنك .أليس كذلك ؟.
أومأ مصعب برأسه بنعم..وطلب من صديقيه التزام الصمت, عندما لاحظ أن السيدة تقترب منهم.وعندما صارت على مسافة قريبة جداً ..ألقت على الأصدقاء السلام ..وبعد أن ردّوا عليها ,قالت السيدة :
– لاعليك يا مصعب ..لقد فعلت أنت وأصدقاؤك الخير .وهذا يدلّ على خلقك الطيب ياولدي .
ابتسم مصعب وسألها :
– عجباً ..من أين تعرفينني؟.
بادلته الابتسامة وأجابته:
– هل نسيتني؟؟ ..أنا التي تتبضّع الخضار وباقي حاجيات البيت من محلاّت السعادة . كنت أراك باستمرار مع والدتك ..عندما كنت تحضر لمساعدتها .
ابتسم مصعب وكأنه قد تذكّر شيئاً:
-آه ..صحيح ..آسف لأنني لم أتذكرك لحظتها ..نعم أنت الخالة فوزية .
ابتسمت الخالة فوزية وقالت:
– أحسنت ..حتى إنك أردت أن تحمل عني بعض الحاجيات, لكنني لم أرِد أن أكلّفك تحمّل عناء ذلك.
هزّ مصعب رأسه وقد تذكّر كل شيء:
– نعم ..أتذكّر ذلك.
ثم انتبه لشيء ما فقال:
– ولكن مالذي كنت تفعلينه مع عائلة الدكتور لطفي في المركز ؟.
وما إن أنهى مصعب سؤاله حتى وخزه عبدالعزيز بذراعه ..فأدرك مصعب ماسبّبه من حرج للخالة فوزية بسؤاله هذا ,ومع هذا أجابته:
– أنا أعمل في منزل الدكتور لطفي منذ أكثر من سنة ,وعندما تراني أتسوّق الحاجيات من المحل. فهذا لبيت الدكتور .أما أنا فأسكن مدينة أخرى.
أراد مصعب أن يعتذر عمّا سببّه من حرج , ولكنّه قبل أن يفعل ذلك قالت الخالة فوزية:
– أرجو أن لاتنزعج من حديث الدكتور معك.فهذا سببه المصيبة التي حلّت به..فالمسألة ليست هيّنة .
إجابها مصعب:
– نعم .أعرف ذلك .وشكراً لمشاعرك الطيّبة ياخالة .
ربتت الخالة فوزية على كتفه قائلة:
– والان أستودعكم الله ,يجب إن أعود للمنزل ,وأرجو أن تبلّغ تحياتي لوالدتك.
أجابها:
– سأفعل .
ثم انصرقت والابتسامة تعلو محيّاها.
* * *
المشتبه به رقم واحد
وصل طارق إلى بيت الدكتور أسعد مستعيناً بالعنوان الذي زوّده به مصعب ,عندما اتصل به من خلال الهاتف القريب من المركز الطبي..وهاهو الآن يقف أمام باب منزل الدكتور أسعد , وهو أحد الأطباء العاملين في المركز وعندما قرع الباب , فتحت له امرأة كبيرة السن ..تتكيء على عكاز, وسألته:
– نعم .هل من خدمة؟.
أجابها طارق بلباقة:
– بصراحة ياخالة أنا بحاجة للدكتور أسعد في مسألة مهمة ..فهل هو موجود؟.
قبل أن تجيب العجوز على سؤاله ,سمع طارق صوتاً من الداخل يسأل:
– مَن ياأمي؟.
أجابته العجوز:
– فتىً يطلب رؤيتك.
وإذا بالدكتور أسعد يخرج ليقف إلى جانب أمّه,وهو يضع المنشفة على كتفه,وكأنه خرج للتوّ من الحمّام.مما دعى طارق أن يستخدم لباقته في التعبير .إذ قال:
– متأسّف جدا ً,جئت من غبر موعد ..ويبدو أن الوقت غير مناسب ..
أجابه الدكتور أسعد, وهو شابّ يبدو أكبر من طارق بسنوات لاتتعدى العشرة:
– لاتبالي..المهمّ.. هل من شيء استدعى حضورك يا…
أجاب طارق:
– أنا اسمي طارق..
ردّ الدكتور أسعد:
– أهلاً وسهلاً ياطارق ..
ثم ابتسم الدكتور وأشار لطارق بالدخول ..وهو يقول:
– تفضل ..سنتكلّم في الداخل ..
جلس الدكتور أسعد في غرفة الضيوف ,وإلى جانبه جلس طارق,الذي بدا عليه الارتباك واضحاً ,إذ كيف سيفتح الموضوع مع الدكتور..وبأيّ صفة ..تنحنح قليلاً ,فأدرك الدكتور أسعد قلقه ,فسأله:
– تبدو قلقاً ..هل هناك شيء أستطيع أن أساعدك به؟ ثم من أين حصلت على عنواني؟.
تلعثم طارق وهو يقول:
– أعطاني إياه مصعب..ابن عمي.
سأل الدكتور أسعد:
– مصعب؟؟ومن هو مصعب ؟؟بصراحة أنا لاأفهم شيئا أبداً ..
قال طارق:
– لقد كنّا في زيارة لمركز الطبي, وأردنا مقابلتك ,لكنّ الموظفة أخبرتنا أنك غير موجود.
أجاب الدكتور أسعد:
– صحيح ..لقد تركت العمل .
سأله طارق:
– لي الكثير من الأقارب يزورونك .وكلّهم يشيدون بأخلاقك الطيّبة ,وحسن استقبالك لهم .ويقولون إنهم يفضلون اختيارك من بين جميع أطباء المركز , وعذراً يعني ..رغم قصر خبرتك ..وصغر سنّك ..لكن هذا ليس مقياسا ًللطبيب الناجح..
ابتسم الدكتور أسعد ..وهو يحكّ يده براحة يده الأخرى, خجلاً لماسمعه من إطراء ..وقال:
– شكراً ..ولكن بصراحة ..أنا لحد هذه اللحظة لم أفهم شيئاً.
ثم قال ضاحكاً:
– هل تريد أن تتعالج عندي مجاناً ..فأنا للأسف لا أملك عيادة ..حتى إنني لم ألتحق بوظيفة جديدة.
بادله طارق الضحك.قائلاً:
– لا ..ولو أردت أن أتعالج فلن أذهب إلى أحد غيرك ,هذا وعد مني ..لكنني جئت لسبب آخر ..
استعدل الدكتور أسعد في جلسته , ليفهم الجالس أمامه .أنه آن الأوان لسماع الأمر الذي جاء من أجله..فقال له:
– نعم ..تفضّل..
بدأ طارق حديثه:
– بصراحة يادكتور ..لقد أخبرتني للتوّ بأنك تركت العمل مع الدكتور لطفي ,في حين أننا سمعنا أنه ..واعذرني لهذه الكلمة ..أنه طردك من الوظيفة.
شبّ الدكتور أسعد من مكانه ..وأنزل رجله التي كان قد وضعها فوق الأخرى ..وهو يقول:
– ماذا؟؟!! طردني؟..ولماذا يطردني أصلا ؟؟. أنا الذي تركت العمل مع هذا الإنسان الجشع,الذي لايهمّه شيء من الدنيا, بقدر مايهمه كم كسب من المال..
سأل طارق باستغراب:
– معقول ؟!!
سحب الدكتور أسعد نفساً عميقاً ,بعد أن لاحظ أنه بالغ بانفعاله أمام طارق ..لكنّه حاول تدارك الأمر بقوله:
– ليس هذا موضوعنا ..وسواء أكون أنا من ترك العمل أو لا ..فهذ شيء فات أوانه ..المهم مالمطلوب مني ؟
لاحظ طارق تغيّر نبرة الدكتور أسعد ,الذي بدا منزعجاً مما سمعه فقال:
– أعتذر. لم أكن أقصد إثارة غضبك ,لكنّنا ..أقصد أنا وأولاد عمي وخالتي ..أحببنا أن نقدّم المساعدة بحسب مانتمكّن للمركز, بعد أن شاهدنا حجم الدمار الذي أصابه .
استغرب الدكتور من كلام طارق , فسأله:
– أيّ دمار ؟؟ومالذي أصاب المركز؟.
أجاب طارق:
– أقصد الحريق الذي أكل الأخضر واليابس؟.
زاد استغراب الدكتور أسعد فاستعدل في جلسته .وسأل :
– هل احترق المركز ؟ ومتى ؟ وكيف؟.
اندهش طارق وهو يرى استغراب الدكتور أسعد ,فسأل:
– ماهذا ؟تقصد أنك لم تكن تعرف بهذا؟.
أجاب الدكتور أسعد:
– وكيف لي أن أعرف وأنا قدتركت العمل فيه من أيام ..؟؟.
قال طارق:
– نعم صحيح .ولكنّني طننت أنّ أحداً ما ينقل لك الأخبار أولاً بأول..
هزّ الدكتور أسعد رأسه ..وهو يقول:
– لا ..لم أعُد على اتصال مع أحد أبداً ..ثم أرجوك .أنا لاأعرف سبب وجودك ..طبعاً ليس من المعقول أن تكون قد بحثت عن عنواني , وأجهدت نفسك بالحضور إلى هنا لتبلّغتي هذا الخبر..أليس كذلك ؟.
ضحك طارق وهو يقول :
– طبعا لا..ولكن ..لاأدري إن كنت ستستغرب إن أخبرتك أنّنا بصدد البحث عمّن يكون قد أشعل النار في المركز ,بعد أن سمعنا أن الحريق قد تمّ بفعل فاعل .فتوزّعنا أنا وأصدقائي بدافع محبّتنا للخير ,ومعرفة الحقيقة..لنبحث عن أيّ خيط يرشدنا لمعرفة الفاعل..
قال الدكتور أسعد بغضب:
– أتعرف ..لو لم تكن مهذّباً كلّ هذا التهذيب الذي تبدو فيه ..ولو لم يكن يظهر عليك حسن النيّة ,لكنت طردتك من بيتي ..أو على الأقل كنت سألتك عن الصفة التي تخوّلك الحديث معي بها الشأن؟..هذا إن لم أقم بالتبليغ عن تدخّلك بعمل الشرطة..
هزّ طارق رأسه مرتبكاً وهو يقول:
– والله أعرف ذلك .. بالمناسبة عمّي يعمل ضابطاً بالشرطة , وقد قال لي الشيء نفسه ..لكنّ روح المغامرة التي عندنا تنسينا كلّ شيء ..أرجوك أن تقدرّ ذلك. ومجيئي هنا ليس لأوجّه لك أي اتهام ,بقدر ماهو رجاء ,في أن تساعدنا للتوصّل إلى الحقيقة ,التي بالتأكيد تهمّك مثلما تهمّ الشرطة .أو تهمّ الدكتور لطفي نفسه.
قال الدكتور أسعد ,بعد أن خفّف من حدّة كلامه:
– هذا مؤكّد ..ولكن إن استدعتني الشرطة, فسأقول كلّ شيء أعرفه, من شأنه أن يخدم معرفة الجاني ..أو التوصّل للحقيقة ..
سأل طارق:
– وهل تعرف شيئاً حول هذا الموضوع ؟.
ردّ الدكتور أسعد:
– أرجوك هذا ليس من شأنك؟.
تلعثم طارق ,ثم تشجّع ليقول:
– عفواً ..ولكن مسألة تركك العمل تثير الشبهات حولك,هذه حقيقة أرجو أن لاتغضب منها .
أجاب الدكتور أسعد:
– ولمَ أغضب؟ ..إن سألتني الشرطة عن سبب تركي للعمل, فسأجيبهم أنني لاأستطيع العمل معه. إنّه رجل غريب الأطوار..حادّ المزاج ..مرّة تراه يضحك ويجامل ,وأخرى تراه إنساناً قاسياً لايرحم.
لا تستغرب إذا قلت لك إن سبب تركي العمل سبب تافه.. فقد اتهمني بعدم احترامي له, لأنني صدفة ومن غير أن أدري, دخلت مكتبه دون أن أستأذن منه.. وكان جالساً معه أحد الذين يتعامل معهم باستمرار..ويبدو أنهما كانا يتناقشان في موضوع مهم ,لم يُرد الدكتور لطفي أن أسمعه نهائياً..
فأقام الدنيا وأقعدها.. حتى إنّه أهانني. كم تمنّيت حينها أن تنشقّ الأرض وتبلعني..أو أن أتناول شيئاً لأضربه به, وأردّ له الصاع صاعين..
استغرب طارق ممّا سمعه,فسأل:
– عن أيّ شيء كانا يتحدثان:
أجاب الدكتور أسعد:
– لاأدري ..ليس هذا الشخص فقط ..بل إن هتاك أشخاصاً كثيرين غيره, كانت أشكالهم تثير الريبة والشكوك.كنت أتعمّد أن أحاول أن أسمع بعض العبارات التي كانوا يتناقشون بها ..بعد أن بدأت أشكّ بالدكتور وأفعاله. كانوا يتناقشون حول استيراد أجهزة ومعدّات طبية حديثة بمبالغ هائلة ..وعن قروض مصرفية بالملايين ..أو أدوية ومواد مخدّرة بصلاحيات منتهية ..والكثير من هذه الأمور التي جعلتني أتحيّن الفرصة, وأختلق الأعذار لأترك العمل معه ..بعد أن أحسست أن المركز الطبي صار ستاراً يحتمي به الدكتور لطفي , وخيمة يعقد بها صفقات مشبوهة.
سأل طارق:
– إذن تشكّ بنزاهته؟ ..
هزّ الدكتور أسعد رأسه قائلاً:
– طبعاً ..ولكن للأسف مع عدم وجود أيّ دليل.
ثم ابتسم ليقول:
– ولاأكتمك سرّاً لو أخبرتك عن مدى السعادة التي غمرتني عندما نقلت لي خبر الحريق ,ليس من باب الشماتة ..بل لأنني أحسست أنها جاءت لتضع حداً لجشعه ,ولتكون رادعا ًله ولأمثاله .
وبهذا الشيء يكون الدكتور أسعد قد أدلى بدلوه من غير قصد منه, أما طارق فقد حصل على مايريده تماماً.
خرج طارق من منزل الدكتور أسعد, وهو محمّل بشكوك كثيرة, بعضها يدين الدكتور أسعد بهذه الفعلة , وبعضها يبرّؤه.
* * *
توزيع المهامّ
قبل أن يصل طارق إلى منزل مصعب حيث يجتمع الجميع . كان زياد يُري الأصدقاء صالح وعبدالعزيز وزينب ومحبّة ومصعب,الصور التي التقطها, لآثار الأقدام المطبوعة في حديقة المركز الطبي, وأعطى نسخة لكلّ واحد منهم. قال مصعب ..وهو يتفحّص الصورة المكبّرة :
– ياه!!..رائع.. تبدو واضحةجدا!!.
أجاب عبدالعزيزالذي أمسك بنسخة من الصور:
– وخصوصاً نقشة الكعب ..إنها مميّزة ,ومن السهل التعرّف عليها ..
قالت زينب:
– وهذا الرقم 43 يدل على قياس الحذاء .إنه من الحجم الكبير.
أجابها زياد:
– هذا صحيح..
أما مصعب فقد كان يفكّر في شيء ما ,وهو يحتضن نسخة من الصورة المكبّرة التي أعطاها له زياد.وعندما انتبه عبدالعزيز لشرود ذهن صديقه سأله:
– مابالك يامصعب؟؟أراك شارد الذهن؟؟بم تفكر؟؟.
أجابه مصعب:
– أفكّر في شيء لفت انتباهي..ولاأدري إن كان سيفيدنا في شيء أم لا..ولكنّه شيء يثير الاستغراب..
تحلّق الأصدقاء حول مصعب لمعرفة مايجول في خاطره ..فأردف مصعب قائلاً:
– سيارة الدكتور لطفي التي شاهدناها اليوم .كان يقودها سائق وليس الدكتور نفسه ..وهذا يعني أنّ الدكتور قد عيّن له سائقاً خاصاً..أليس كذلك؟
أجاب صالح:
– وماذا في هذا ؟؟
استرسل مصعب:
– في حين أننا عندما كنّا موجودين ساعة اندلاع الحريق ,كان الدكتور لطفي يقود السيارة بنفسه حينما عائداً لتوّه من المطار ..
نظر الأصدقاء في وجوه بعضهم البعض ..بينما راح مصعب يكمل بقية تحليله :
– فكيف جاءت إليه السيارة إلى المطار؟؟هل يعقل أن يكون قد تركها في ساحة وقوف السيارات طوال فترة سفره؟؟أم يكون السائق قد أحضرها إليه قبل موعد وصوله ثم انصرف ؟؟أم ..ماذا؟؟.
أشار عبدالعزيز بسبابته نحو مصعب قائلاً:
– أنت عبقري يامصعب ,المسألة تستحقّ التفكير حقاً..
هزّ مصعب رأسه قائلاً:
– الخالة فوزية ربما تفيدنا في معرفة حلّ هذا اللغز.
ثم عاود النظر إلى الصورة التي يحتضنها ..وقال موزّعاً كلامه للجميع:
– الآن..وبعد أن احتفظ كلّ منّا بصورة مكبّرة لقدم المشتبه به, سيقوم زياد بالبحث عن البستاني..وتصحبه في هذه المهمة محبّة..
فركت محبة راحتي كفيها ببعضهما فرحة وهي تقول:
– وأخيراً جاء دوري..
ثم انبرى مصعب يوزّع المهامّ على أصحابه أعضاء الفريق,قائلاً بجدّية:
– أما أنا.. فسأقوم بزيارة لبيت الدكتور لطفي بحجّة زيارة الخالة فوزية , قد أحصل منها على معلومات مفيدة,أما صالح فستكون مهمّته متابعة الأستاذ عادل المحاسب, وتحيّن الفرصة لمحادثته , وعبدالعزيز سيكون متواجداً في المركز الطبي .وستبقى زينب هنا لتنسّق فيما بيننا عبر اتصالاتنا. ولتعرف ماتوصّل إليه طارق..
هزّت زينب رأسها مبتسمة وهي تقول:
– تقصد سأكون مشرفة على إدارة غرفة العمليات..
ضحك الجميع ..وانصرف كلّ إلى المهمة التي كلّف بها.
* * *
أي الطرق يؤدي للحقيقة؟
في المركز الطبي..كانت هناك مفاجأة بانتظار عبدالعزيز .
– (( ماذا تفعل هنا يا عبد العزيز ؟! )).
التفت عبدالعزيز ناحية مصدر الصوت ,وإذ بعمّه النقيب ياسر يهمّ بدخول المركز الطبي , ارتبك عبدالعزيز, الذي كان يستعدّ هو الآخر لدخول المركز..وأجاب عمّه:
– من ؟! عمّي ياسر ؟!!..بصراحة جئت لأعرض عليهم مساعدتنا..
ابتسم النقيب ياسر ,وقال مع ضحكة ساخرة:
– مساعدتكم ؟؟.. ومن معك ؟؟ يا من تتدخّلون في كل شيء؟.
بلع عبدالعزيز ريقه ..وتبلعم وتلعثم..ثم أجاب:
– بصراحة يا عمّي…إنّ… إنّ ..بصراحة.. كنت أشاهد ماذا حلّ بالمركز الطبي.. بعد أن شبّت فيه النيران . فربما يكونون بحاجة للمساعدة.
هزّ النقيب رأسه ..وكأنه يدرك أن كلام ابن أخيه عارٍ عن الصحّة ..وقال وهو يربت على كتفه:
– لا أبداً..ليست هذه الحقيقة. وإنما أنت هنا من أجل مغامرة جديدة..بلّغ أصحابك أنكم تعرّضون أنفسكم لمشاكل أنتم في غنى عنها..
ثم تشجّع عبدالعزيز,واستعان بجرأته ..وقال لعمّه بثقة:
– نحن هنا يا عمّي من أجل أن نكشف الحقيقة.. وبهذا نقدّم لكم مساعدة قدر استطاعتنا..
انشغل النقيب ياسر بتوظيب بعض الأوراق التي كان يحملها..وراح يكلّم عبدالعزيز من غير أن ينظر إليه:
– هذا تدخّل في شؤون الشرطة..أنا مثلاً موجود هنا من أجل أن أتابع التحقيق في مسألة الحريق.. وسآخذ أقوال الدكتور لطفي حسب الأصول والقوانين..
وفي هذه اللحظات التحق اثنان من الشرطة ,لينضمّا إلى النقيب ياسر..فما كان من النقيب إلا أن
أن يضع يده على كتف عبدالعزيز ,ويبتسم له قائلاً:
– هيا يا عبدالعزيز… ارجع إلى بيتكم..وبلّغ تحياتي لأهلك..
ثم دخل من الباب الرئيس للمركز يتبعه الشرطيان ..فلم يكن أمام عبدالعزيز إلا مغادرة المكان .أو على الأقل الابتعاد عنه ,ريثما يغادره عمّه النقيب ,ومن معه من أفراد الشرطة.
* * *
وفي جانب آخر.. كان زياد ومحبّة يبحثان بين بيوت منطقة شعبية متواضعة .عن بيت البستاني الذي يعمل في المركز ..مستعينين بالعنوان الذي حصلا عليه من مصعب ,والذي حصل عليه بدوره من الموظفة التي تعمل في المركز الطبي,وبعد أن سألا أكثر من شخص ,تمكّنا أخيراً من العثور عليه ..وهاهما يقفان قبالته.. كان البيت متواضعاً جداً ..وسوره مكشوفاً للعيان .والباب مفتوحاً لكل من هبّ ودبّ ..وفي الحديقة المتواضعة راح الدجاج والبط يسرح ويمرح فيها..حتى إنهما لم يجدا صعوبة في دخول المنزل ..وعندما فعلا ذلك فوجئا بالبستاني يتمدّد في ظلّ شجرة تتوسّط الحديقة .وكأنه يأخذ حمّاماً شمسياً..وقد وضع يديه تحت رأسه ..ممداً رجلييه التي وضعها الواحدة فوق الأخرى ..
– ياه ما أحلى الحياة هنا!! ..وما أبسطها !!
هكذا قالت محبة وهي تستعرض المكان ..أجاب زياد:
– هس..ذاك هو نائم تحت الشجرة..
ثم راحا يتقدّمان نحوه بخطى حذرة..همست محبّة في أذن زياد:
– أولّ شيء نفعله هو أن ننتهز فرصة نومه, ونقترب منه لنرى حذاء رجله اليمنى..
هزّ زياد رأسه موافقاً ,ثمّ مدّ يده إلى الجيب الداخلي الكبير في سترته ..وأخرج منها الصورة التي التقطها لقدم المشتبه به ..وعندما صارا قريبين من البستاني النائم ..جلسا على ركبهما, وراحا يقارنان مابين الصورة وحذاء الرِجل اليمنى للبستاني ..قال زياد هامساً:
– ليس هو الحذاء المطلوب..فشكله يختلف..
ثم لاحظت محبة شيئاً ..فقالت حزينة:
– يا للمسكين!!..حذاؤه ممزّق..سآتي له بحذاء من أحذية أبي..
ولكن يبدو أنهما أحدثا صوتاً جعل البستاني ينتبه لوجودهما , فنهض من نومه مفزوعاً ,وإذا به أمام فتى وفتاة اقتحما مملكته المتواضعة .هبّ وجلس فجأة صارخاً في وجهيهما, وهو يمسك بملابسهما كي لايهربا من أمامه:
– ماهذا ؟؟ من أنتما ؟ وماذا كنتما تفعلان؟.
ارتعب الصديقان ..ولم يعرفا كيف يجيبان البستاني ..فقال زياد متأتأً:
– مرحباً.. أقصد.. كيف حالك ؟.. أقصد ..
فقالت محبة التي كانت تبدو أكثر شجاعة من زياد:
– نحن نعرفك يا عمّي.. وسنحكي لك كلّ شيء..
استعاد زياد شجاعته . بعد أن سبقته محبّة بالحديث ومهّدت له الطريق .وقال:
– نعم ..فأنت البستاني الذي يعمل في مركز جراحة الأسنان ..وجئنا نطلب مساعدتك.
أدرك البستاني صدق كلام الفتيين فحرّرهما ,ودعاهما للجلوس أمامه ليستمع منهما ..
* * *
أما صالح, المكلّف بمتابعة الأستاذ عادل المحاسب ,فإنه وصل لبيته توّاً,وطرق الباب ,بعد أن هيأ لنفسه أسئلة وحججاً كثيرة ,يستطيع بها الحصول على بعض المعلومات ,التي قد تنفعهم في التوصّل إلى معرفة الجاني الحقيقي..وهاهو يقف أمام فتى في الثانية عشرة من عمره, بعد أن فتح له الباب..سأله صالح:
– هل هذا منزل الأستاذ عادل ؟؟.
أجابه الفتى:
– نعم.. إنه أبي.. تفضّل..
قال صالح :
– أريد أن أقابل الأستاذ عادل لأمر مهم..
ابتسم الفتى ..ثم أجاب متأسّفاً:
-أناآسف..فأبي ليس هنا..إنه مسافر منذ يومين. ولن يعود إلاّ بعد يومين أيضاً..
لحظتها ..تبادرت إلى ذهن صالح شكوك سريعة ,فقال في نفسه:
-(( يعني أنه سافر في نفس اليوم الذي صارت فيه حادثة حريق المركز الطبي.أمر يثيرالشك!)).
ثم وعد صالح ابن الأستاذ عادل .أن يعاود الزيارة بعد يومين.
* * *
أما مصعب فقد كان ذكياً جداً, عندما خطرت بباله أن يستأذن أمّه في أن يأخذ صحناً من الحلوى, التي صنعتها لهم قبل يومين.لتكون سبباً أوحجّة يستطيع بها أن يدخل إلى بيت الدكتور لطفي ,وعندما وصل تأكّد أن الدكتور لطفي غير موجود في اليت .فشجّعه هذا على أن يرنّ الجرس ,لتخرج له الخالة فوزية مرحّبة:
– أهلاً وسهلاً يامصعب ..ماهذه الزيارة المفاجئة؟؟.
مدّ مصعب يده وقدّم صحن الحلوى للخالة فوزية .قائلاً:
-كيف حالك ياخالة؟؟.هذه الحلوى صنعتها أمي ..واشتهيناها لك..تفضّلي.
ابتسمت الخالة فوزية ,وتناولت الصحن من يده , ثم دعته للدخول,لتكافأه بكوب عصير.
لبّى مصعب دعوة الخالة فوزية ,ورافقها إلى المطبخ .حيث جلس على أحد الكراسي الموجودة فيه.
فصار مصعب يرتشف جرعات بسيطة من العصير,كي يكسب وقتاً أكبر ,وهو يحاول أن يتجاذب أطراف الحديث مع الخالة فوزية .إذ سألها:
– يبدو أن الدكتور لايعرف السياقة .وإلا ماداعي أن يعيّن له سائقا خاصاً؟.
ضحكت الخالة فوزية وقالت:
– لا.. هذا ليس شرطاً .فالدكتور يعرف السياقة بشكل جيد ,لكنه يحبّ أن يظهر للناس بالصورة التي يراها تناسب مكانته..
هزّ مصعب رأسه ,وكان عليه أن يسرع في اختلاق حجّة تؤهّله لأن يسأل سؤالاً آخر..فسأل:
– نعم ..فقد نسيت أنني رأيته مرّة يقود سيارته بنفسه ..وأعتقد أن هذا كان في اليوم الذي شبّ فيه الحريق.
فسألت فوزية:
– تقصد عندما عاد من السفر؟.
إجاب مصعب:
– نعم بالضبط.
ابتسمت فوزية وراحت توظّب أشياء في المطبخ ..وهي تقول:
– هذا صحيح .فالدكتور لم يُرد أن يكلّف أزهر السائق عناء الانتظار ,لذلك اتصل به من هناك ,وطلب منه أن يترك له السيارة في ساحة وقوف السيارات في المطار ..علماً أن الدكتور لديه نسخة من مفاتيح السيارة.
ابتسم مصعب مع نفسه .بعد أن أثبت لنفسه أن أحد توقّعاته كان صائباً..لكنه قررّ أن يسأل الخالة فوزية سؤاله الأخير, كي لاتشكّ فيه ..فسأل:
– من الواضح أنه يعزّه كثيراً..هل يعمل منذ زمن بعيد؟.
نظرت إليه الخالة فوزية ..وقالت:
– إنه أقدم مني ..يعمل معه منذ مايقرب من الأربع سنوات..
وبهذا يكون مثعب قد حصل على مايريده من المعلومات ,التي ربما تنفعهم في التوصّل للحقيقة..
* * *
معلومات مشوّشة
بعد انتهاء يوم حافل بالمعلومات ,التي جمعها الأصدقاء من هنا وهناك,اجتمعوا في صباح يوم جديد في حديقة منزل مصعب ,وراح كلّ منهم يحكي للآخرين المواقف التي صادفته في أثناء حصوله على المعلومات, بعضها صعب وبعضها طريف .وراحوا يحلّلون معاً ويستعرضون الشكوك التي تحوم حول عدة أشخاص.فطارق مثلا ًكان يشكّ في الدكتور أسعد ,فراح بشرح لهم كيف كان الشرر يتطاير من عينيه, وهو يتكلم عن الدكتور لطفي, بينما سفر الأستاذ عادل المحاسب وطلبه إجازة في نفس الوقت الذي اندلع فيه الحريق .أثار الشكوك في نفس صالح وبقية الأصدقاء.أما البستاني فقد أكد زياد ومحبة لأصدقائهما أنه من المستبعد أن يكون هو الفاعل,لأنه بالإضافة إلى أنه لم يكن صاحب القدم التي يبحثون عنها ,فإنه يمتلك من الطيبة والنخوة مايجعلهم يستبعدونه نهائياً.
نظر عبدالعزيز في وجوه أصدقائه المتحلّقين حول مائدة تتوسّط الحديقة .وقال:
– ما بالكم تتكلمون كأنكم تريدون الاستمرار في هذه المغامرة؟! رغم ما قلته لكم عن عمّي النقيب ياسر, وما دار بيننا من حديث!!..
انزعج الجميع من كلام عبدالعزيز ,الذي جاء ليهبّط من عزيمتهم ,لكنّ مصعب قال:
– هذه ليست أول مرة يطلب فيها منّا عمي ياسر أن نكفّ عن التدخّل في هذه الأشياء,لأنّه لايريدنا أن نعرض أنفسنا للمخاطرة .ولكنّه في الوقت نفسه سيفخر بنا إذا ماتوصّلنا لمعرفة الفاعل الحقيقي.
ابتسم صالح وهو يقول:
– اطمئنوا لن نعرّض أنفسنا للمخاطر.وسنحكي لعمّي ياسركلّ شيء, في الوقت المناسب إن شاءالله.
أقنع الأصدقاء بعضهم بعضاً بمواصلة هذه المغامرة,وعندما همّوا بالانصراف لمتابعة جدول أعمالهم, الذي خصّصوه لهذا اليوم .سمع مصعب صوت أمه ينادي من الداخل:
– (( مصعب. صالح. أين أنتما؟؟.))
قال مصعب:
– إنها أمي.. خيرا إن شاء الله!!.
أراد أن يدخل ليعرف منها سبب مناداته,لكنها سرعان ماخرجت إليهم لتنقل لهم الخبر التالي:
– حسنا ..الجميع مجتمع هنا ..الحمد لله ..إذن سأبلّغكم جميعاً طلب عمكم ياسر ..
استغرب مصعب وسأل:
– عمّي ياسر!!؟
أجابت أمه:
– أجل ..لقد اتصل بي توّاً ..وأخبرني أنه رآك ياعبدالعزيز صباح هذا اليوم في المركز الطبي ,وطلب منك الابتعاد عن مخاطر أنتم في غنىً عنها ..وطلب منك أن تبلّغ الأصدقاء بذلك ..
أراد مصعب أن يتكلّم ..فقال:
– ولكن ياأمي..
فقاطعته أمه قائلة :
– انتظر لم أنتهِ من كلامي بعد ..لأنه أخبرني أيضاً أن أقول لكم إن الدكتور لطفي لم يوجّه اتهاماً لأي أحد ..وقال أيضاً إنه إذا أصرّ الدكتور لطفي على رأيه, فإنهم لن يعثروا على أحد,والحادثة ستسجّل ضد مجهول .
نظر الأصدقاء مندهشين في وجوه بعضهم البعض.وقال طارق:
– ماذا ؟!.
نهض عبدالعزيز قائلاً:
– هذا مستحيل..
وقال مصعب:
– هناك من فعل هذا.وسنعرفه إن شاء الله.
عادت أم مصعب من حيث جاءت وهي تقول محذّرة:
– لقد أبلغتكم ..وأي تصرّف عكس ذلك ,سيثير غضب عمًكم ياسر..واضح؟؟.
بعد أن دخلت أم مصعب إلى البيت.جلس الأصدقاء محبطين, بعدما سمعوا ماسمعوه ,حيث تبدّدت أحلامهم في تحقيق هذه المغامرة .وخصوصاً أنهم أمسكوا بأطراف خيوطها, التي ربّما ترشدهم للحقيقة.
سحب مصعب نفساً عميقاً .ثم نظر إلى عبدالعزيز وقال له:
– اسمع ياعبدالعزيز سترافقني مع طارق إلى منزل الدكتور لطفي..لنعرض على الخالة فوزية الأمر ,ربما ترشدنا أو تساعدنا في شيء ما.
وقال زياد:
– أما أنا.. فسأرافق صالح إلى بيت الأستاذ عادل..علّه يكون قد عاد من سفره..
ضحك طارق ساخراً:
– هذا إن كان مسافراً فعلاً..
نظر إليه مصعب قائلاً:
– لا ..أجّلا ذلك للغد .حتى تمضي الفترة التي حدّدها الابن لعودة أبيه من السفر.
أحاب صالح”
– نعم ..صدقت.
انطلق مصعب يرافقه طارق وعبدالعزيز نحو بيت الدكتور لطفي ,في محاولة لتقصّي الحقيقة , وقبول الخالة فوزية لمبدأ إبداء المساعدة .وعندما وصلوا إلى منزل الدكتور لطفي .كان الوقت عصراً ,وهذا مابرّر لهم وجود السيارة في ساحة الييت الفخم.نظروا في وجوه بعضهم,فشجّعوا بعضهم البعض.وقرع مصعب الباب .وفعلاً ..خرجت الخالة فوزية لتستقبلهم بابتسامتها المعهودة, وعندما اقتربت لتفتح الباب .قالت لمصعب:
– حسنا فعلت بمجيئك.لقد وفّرت عليّ عناء المجيء إليكم ,لأنني صنعت كعكة. ووضعت عدة قطع منها لأعيد إليكم صحنكم..
ضحك مصعب قائلاً:
– ولِِم تتعبين نفسك ياخالة؟؟..ثم إنني لم آتِ هنا لاسترداد الصحن,وإنما لموضوع آخر.
استغربت الخالة فوزية من كلامه ,فسألته:
– أيّ موضوع؟؟.
أجابها مصعب:
– سنتكلّم بهذا الخصوص لاحقاً..
ابتسمت الخالة فوزية بخجل.وقالت:
– بصراحة , الدكتور لطفي موجود ,وأخشى إن دعوتكم للدخول ,أن ..أن..
فقاطعها مصعب قائلاً:
– أعرف ..لاأريد أن أسبّب لك أي إحراج ياخالة ..وإذا أحسّ الدكتور بوجودنا فأخبريه أننا نريد مقابلته لأمر ضروري ,يتعلّق بحريق المركز .
هزّت الخالة فوزبة رأسها ..وهي تقول:
– طيّب..انتظروني لحظات ..بينما أحضر صحن الكعك.وأستكشف الأمر.
دخلت الخالة فوزية للبيت.بينما ظلّ مصعب وطارق وعبدالعزيز واقفين عند الباب.سأل عبدالعزيز:
– كيف تقول لها ذلك؟.
سأل مصعب:
– ماذا؟.
أجاب عبدالعزيز:
– هل صحيح تريدنا أن نقابل الدكتور لطفي؟.
ابتسم مصعب..وقال:
– لابأس من ذلك..وسنطلب منه أن نتعاون جميعنا في العثور على الفاعل ..وسنوضّح له وجهات نظرنا, وماتوصّلنا إليه وجمعناه من معلومات.فالمسألة تهمّه أكثر مما تهمّ الشرطة نفسها ..
بعد قليل عادت إليهم الخالة فوزية ..وابتسمت وهي تنقل لهم الخبر:
– تفضّلوا عندي في المطبخ,ريثما يفرغ الدكتور ,ويأذن لكم في مقابلته..لقد أخبرته أنكم تريدون مقابلته.
دخل الأصدقاء .وكلّ منهم ينظر في وجه الآخر,لقد صاروا أمام الأمر الواقع..مَن منهم سيبدأ الحديث أولاً مع الدكتو لطفي؟ ,وكيف سيبدأون الحديث..
جلس الثلاثة حول مائدة المطبخ..فبادر مصعب بالحديث مع الخالة فوزية بصوت خافت..قائلاً:
– أرجوك يا خالة أن تساعدينا في التوصّل إلى الجاني.
أومأت الخالة فوزية رأسها ,وهي تقول:
– أتمنى ذلك ..ولكن كيف؟؟..
ولكن سرعان مادخل الأستاذ لطفي إلى المطبخ..وتفحّص وجوه الجالسين,الذين نهضوا من مكانهم احتراماًوتقديراً للدكتور لطفي,,وبعد أن انتهى من تفحّص الوجوه ..قال :
– كأنّني رأيتكم قبل هذه المرة !!…
أجاب مصعب:
– نعم في المركز الطبي .
أشار الدكتور بسبّابته نحوهما قائلاً:
– تقصد زبائن مرضى ..أم ..
ابتسم مصعب قائلاً:
– لا..ولكنّنا جمعنا لكم الأوراق المتطايرة من المركز, عندما ..
ثم قاطعه الدكتور لطفي قائلاً:
– نعم ..نعم ..لقد تذكّرت ,وطلبت منكم في حينها عدم التدخّل في أمور أكبر منكم.. والآن أنتم في بيتي!! ..ماشاء الله ..ماذا تريدون؟؟.
أجاب عبدالعزيز بصوت مرتعش:
– جئنا نطلب مقابلتك يا عمّي..
وأردف طارق:
– الأمر لا يحتمل التأجيل..
سأل الدكتور لطفي مستهزئاً :
– ماذا هناك؟؟..
أجاب مصعب:
– لن نأخذ من وقتك سوى دقائق قليلة ..أرجوك يادكتور.
سحب الدكتور نفساً عميقًا ,ووجد نفسه مجبراً على مقابلتهم,وخصوصاً بعد أن سمع ماسمع من التوسّلات ..فأشار إليهم أن يتبعوه قائلاً:
– أمري إلى الله .. تفضّلوا إلى مكتبي، ولكن..أرجو ألاّتؤخّروني عن عملي.واضح؟؟.
سبقهم هو إلى المكتب..بينما نظر عبدالعزيز إلى صديقيه والخالة فوزية,وفرك راحتي يديه ببعضهما هامساً:
– الحمد لله .. لقد اقتنع أخيراً..
ودخل الثلاثة يمشون وراء الدكتور لطفي ,الذي يقودهم نحو مكتبه في بيته..وبعد بضعة خطوات مرتبكة ,وجد الأصدقاء الثلاثة أنفسهم وسط غرفة فخمة, يتوسّطها مكتب أنيق..وعلى الجدران توزّعت شهادات وأوسمة وأشياء أخرى, أثارت انبهارهم .وبعد أن سمح لهم الدكتور لطفي بالجلوس,بادر عبدالعزيز بالكلام أولاً:
– أنت طبيب مشهور ياعمّ, وتملك مركزاً طبياً فخماً، ونحن نتشرّف أن تكون أحد سكان منطقتنا..
ثم انبرى صالح ليساعده بالكلام:
-وكثيراً ما تحدّثنا عنك وعن الخدمات الجليلة التي تقدّمها في مركزك الطبي ..
لكنّ هذا الإطراء لم يرُق للدكتور لطفي .فقال بخشونة:
– لا داعي لكلّ هذه المقدّمات..ادخلا في الموضوع مباشرة..
قال عبدالعزيز:
– بصراحة يادكتور..نحن ومن منطلق اعتزازنا بحضرتك, قمنا بمتابعة مسألة الحريق الذي شبّ في مركزك الطبي ..
واستأنف صالح:
– وتوصّلنا إلى عدة اكتشافات, قد تفيدك في معرفة من وراء هذه الفعلة الشنيعة..
استهزأ الدكتور وسخر ممّا سمعه منهم..فسأل:
-اكتشافات!!.ومن طلب منكم ذلك؟.
ثم أردف عبدالعزيز قائلاً:
– لقدسمعنا أنك لم تتّهم أحداً بإشعال النار..على الرغم من أنّ هناك أكثر من شخص, عليك أن تشكّ به..
وقال صالح بجدّية:
– وأنت يادكتور. إذا سمحت له بالقيام بهذه الفعلة، فإنه سوف يتمادى لأن يفعل ما هو أكبر لا سمح الله..
نهض الدكتور لطفي من مكانه منزعجاً ..وقال مكشّراً:
– ما هذا الهراء ؟ هل جئتما إلى هنا لتلقيا عليّ محاضرة؟!.
وقف الثلاثة خائفين,ولكن كان لابدّ لهم من تحمّل كل الكلام الجارح والخشن,لأنها الفرصة الأخيرة بالنسبة لهم.
سأله عبدالعزيز بعد أن ضاق ذرعاً :
– لماذا لا تسمح لنا بتقديم المساعدة لك ؟.
ثم أخرج مصعب الصورة التي التقطوها لقدم المشتبه به ..وقرّبها من الدكتور قائلاً:
– إنّ عندنا دليلاً قد يساعدك في التوصّل إلى الفاعل..
وردّ عبدالعزيز:
– نعم.. إنّنا نحتفظ بصورة لحذائه الذي كان يلبسه ساعة أشعل النيران ..
صعق الدكتور لطفي ..ومدّ يده ليأخذ الصورة من يد مصعب ..قائلاً:
– ماذا ؟! مستحيل ؟!..كيف حصلتم عليها؟!!.
وراح يتفحّص الصورة جيداً ..وبعد لحظات من الصمت ..استدار الدكتور لطفي صوبهم .وخفّف من نبرته قائلاً:
– حسن ..يبدو أنّكم أولاد طيبون ..اتركوا هذه الصورة عندي ,وسأعرف كيف أتصرّف..
أراد مصعب أن يتكلّم ,لكنه قبل أن يتفوّه بأي حرف ..قال الدكتور:
– والآن مع السلامة…
* * *
أين الحقيقة إذن؟
صار زياد وصالح على مسافة أمتار قليلة من منزل الأستاذ عادل .فأشار صالح بيده صوب البيت,قائلاً:
– ذاك هو البيت..وهذه المرّة أنت الذي سيسأل، فقد عرف ابنه وجهي..
أجاب زياد:
– إذن.. قف أنت جانباً..
وقف صالح على بعد أمتار قليلة من باب البيت,بينما مدّ زياد يده ليرنّ الجرس..وخلال لحطات قصيرة.خرج ابن الأستاذ عادل كالعادة..فسأله زياد:
– مرحباً..هل أستطيع أن أقابل الأستاذ عادل؟.
أجاب الابن:
– ولكنّه عائد من السفر للتوّ ,وأخشى أنه لايستطيع مقابلتك.
بعد أن سمع صالح جواب ابن الأستاذ عادل, اطمئنّ إلى أنه كان صادقا ًمعه في المرة السابقة , لذلك اسرع ليقف قبالته قائلاً:
– ولكنّنا جئنا إليه أكثر من مرة ..وحضورنا اليوم بناء على طلبك.
ابتسم الابن وقال:
– نعم ..لقد تذكّرتك .أنت الذي حضرت قبل يومين..
أشار صالح برأسه أن ..نعم ..فقال الابن:
– طيّب..لحظة واحدة من فضلكما. سأرى فيما إذا كان أبي نائماً أم لا..
ثم دخل البيت ..وراح الصديقان يتهامسان.قال زياد:
– لم يكن يكذب إذن ..كان مسافراً بحقّ..
أجاب صالح:
– لكن هل لسفره علاقة بالعمل مع الدكتور لطفي؟..
قبل أن يسمع صالح جواب صديقه ..خرج ابن الأستاذ عادل يشير لهما بالدخول قائلاً:
– لحسن حظكنا أبي مايزال مستيقظاً..تفضّلا ..
دخل صالح وزياد ليجلسا في غرفة استقبال الضيوف.وأشار ابن الأستاذ عادل لهما بالجلوس.ريثما يحضر أبوه..ثم قدّم لهما بعض الحلوى, من تلك الموضوعة في صينية على طاولة كبيرة, تتوسّط الغرفة الصغيرة ..وابتسم لهما قائلاً:
-أهلا ًوسهلاً..
تبادل الصديقان الابتسامات فيما بينهما ,وكأنّ لسان حالهما يقول: ((ياله من فتى مؤدّب!)).
خلال لحظات دخل الأستاذ عادل .ومع دخوله كاد الصديقان أن يغمى عليهما من هول المفاجاة.
حتى إنهما لم يعيرا أهمية لسلامه, ولم يردّا عليه.بل قالا بصوت واحد:
– مستحيل !!.
لقد كان الأستاذ عادل يقف على عكّازة, بدل رجله اليمنى المقطوعة. وهي نفس الرِجل التي يحتفظون بصورة لنعل الفردة اليمنى, من الحذاء الذي كان يلبسه المشتبه به .وبعد أن لاحظ استغرابهما ..قال:
– مابالكما!! ..حتى إنكما لم تردّا على سلامي؟!!.
ثم مدّ يده ليصافحما.فانتبه صالح لذلك,فأسرع ليضع كفّه بكفّ الأستاذ عادل,وليقول له:
– عذراً ياأستاذ عادل..
رحّب الأستاذ عادل بهما, بعد أن صافحهما,وجلس معهما ,قائلاً:
– أهلاً وسهلاً بكما يا ولديّ…عرفت من ابني حسن أنكما حضرتما أكثر من مرّة وسألتما عني.
ابتسم صالح الذي مايزال مذهولاً للمفاجأة التي جاءت لتنفي كلّ الشكوك التي تحوم حول الأستاذ عادل.و قال:.
– حمداً لله على سلامتك أولاً يا عمّي..
ردّ الأستاذ عادل:
– سلّمكما اله ..هل من خدمة؟.
ضحك صالح وهو يتبادل النظرات مع صديقه زياد.وكلاهما لايعرف كيف يبدأ الكلام ..لكنّ زياد فضّل أن يخبر الأستاذ عادل عن مسألة حريق المركز الطبي, الذي يعمل الأستاذ عادل محاسباً فيه..وبالفعل ..دهش الأستاذ عادل لهذا الخبر المفجع..ثم صارحاه بمسألة الشكوك التي كانت تحوم حول بعض الأشخاص, ومن بينهم هو ذاته. ثم راحوا يتناقشون ويتحادثون في أمور كثيرة ..واستعرض الأستاذ عادل بعض المآخذ حول الدكتورلطفي…واكتشف الصديقان أشياء جديدة كانت تسجل إلى جانب التجاوزات التي كان يقوم بها الدكتور لطفي في مركزه.ولكن من غير أن يعثروا على دليل واحد يقودهم لمعرفة الفاعل الحقيقي .
* * *
أصيب جميع الأصدقاء يالإحباط,وجلسوا في الحديقة يتسامرون ويتناقشون في أشياء كثيرة مرّت بهم خلال الأيام القليلة الماضية,ولكن للأسف من دون أن يحققوا الفائدة المنشودة. لذلك اتفقوا على أن يتوقّفوا عن متابعة هذه المغامرة,استجابة لطلب عمّهم, الذي يكنّون له معزّة كبيرة,ولأنهم فعلوا مابوسعهم دونما التوصّل للحقيقة.كما إنهم اتفقوا على أن يصارحوا العمّ ياسر ببعض الحقائق والاكتشافات التي توصلوا إليها ,ربما تفيد في الموضوع,هذا إن لم يقفل ملفّ هذه القضية.
نهض عبد العزيز وقال مبتسماً:
– أما أنا فاعتباراً من الغد سأنضمّ لفريق كرة القدم, الذي ننوي تشكيله ,ليمثّل شباب منطقتنا ,ونشترك في الدوري خلال الأسابيع القادمة .
ووضع طارق رجله فوق الأخرى وقال:
– كان عليّ من البداية أن أعرف أنني فنان, بعيد كلّ البعد عن هذه المسائل التي لاتفيد ولاتنفع.اسمحوا لي بالانصراف,فأصابعي اشتاقت إلى أصابع البيانو.
ثم تبعه زياد قائلاً:
– وأنا سأهيىء بعض الصور الجديدة..علّني أستطيع أن أجمع أكبر كميّة منها.لأشترك بها في معرض جديد.مادمنا في الأيام الأولى للعطلة الصيفية.
انصرف طارق وزياد إلى بيتهما.ونهضت محبّة لتقف إلى جانب أخيها عبدالعزيز, الذي سبقها إلى الباب الخارجي .قائلة:
– خيرها في غيرها.مع السلامة.
وكذلك زينب نهضت هي الأخرى ,لتستفز أخويها قائلة:
– أنا المستفيدة الوحيدة.فقد حصلت على موضوع لقصّة جديدة..ولكن عليّ أن أجد لها نهاية مناسبة.
ثم دخلت إلى البيت,لتترك أخويها مصعب وصالح مع الكآبة والحزن,نتيجة الفشل الذي مُنوا به.
بعد لحظات صمت مطبق.سأل مصعب:
– هل تعتقد أن الدكتور لطفي سيصرّ على رأيه بعدم اتهام أحد ,بعد أن عرف بموضوع آثار الأقدام الموجودة في الحديقة الخارجية للمركز؟.
ابتسم صالح وهو يقول:
– ألم نتفق أن ننسحب من هذه المغامرة؟.
ثم نهض صالح ليدخل البيت.تاركا مصعب مع تأملاته.وأفكاره الشاردة هنا وهناك.
* * *
يوم جديد
يوم جديد ..ونهار جديد..والحديقة التي يجتمع بها الأصدقاء صباح كلّ يوم ..هاهي هذا الصباح خالية ,إلا من مصعب الذي راح يتمشى فيها.متأمّلاً الأشجار والأزهار.وسارحاً مع خيالاته..وكيف باءت كلّ محاولاته بالفشل,إنها هزيمة لايرضاها لنفسه..فرغم أنه لم يكن مقتنعاً بفكرة الانسحاب من هذه المغامرة.إلا أنه وجد نفسه مجبراً على التخلّي عنها بعد ضاقت به السبل ,وخابت الآمال.وبينما هو شارد الذهن ..يقكّر في أمور مختلفة..وإذا به يلمح شخصاً ..يخطف أمامه..ويختفي..لم يستطع أن يميّز ملامحه,لأنه كان شارد الذهن مع أشياء أخرى..ولكنّه متأكّد أن الشخص الذي لمحه, اختفى فجأة عندما أحسّ بوجود مصعب في الحديقة..وفي هذه الأثناء نزل صالح من غرفته لينضمّ إلى مصعب في الحديقة.وسأله:
– هل سلّمت عليها؟.
أجاب مصعب:
– من تقصد؟.
ردّ صالح :
– الخالة فوزية ..كانت هنا قبل قليل .لمحتها وأنا في غرفتي .
استغرب مصعب .وقال:
– الخالة فوزية؟؟نعم فعلاً ..الآن عرفت من هو الشخص الذي تراءى لي شبحه قبل قليل.
سأل صالح:
– تقصد أنها لم تكلّمك ..ولم تكلّمها؟.
أجابه مصعب:
– ولم أحسّ بوجودها أصلاً إلا بعد أن انصرفت..
تمتم صالح:
– غريب!!..مع العلم أنها كانت على بعد بضعة خطوات من سور الحديقة.
فكّر مصعب قليلاً قبل أن يقول:
– لابدّ أنها كانت بحاجة لشيء ما وخجلت ..أو تراجعت عنه عندما رأتني في الحديقة..
هزّ صالح كتفيه قائلاً:
– ربّما..
ثم راحت الأفكار تتراود في ذهن مصعب ..وقال بعد لحظات من التفكير:
– أو ربّما أنها اكتشفت شيئاً جديداً ..وجاءت لتنقله إلينا ..ولكن.. لمِ تراجعت ؟؟.
ثمّ نظر إلى صالح وسأله:
– مارأيك؟.
أجاب صالح ببرود:
_ ربّما..
انزعج مصعب من جواب أخيه ..فثار في وجهه:
– ياأخي ألاتعرف غير هذه الكلمة؟؟قل شيئا..
قال صالح :
– شيئاً..
ثم ضحك ضحكة عالية.ودخل بعدها إلى البيت.أما مصعب فظلّ مع توقّعاته ,والاحتمالات الممكنة التي دعت الخالة فوزية للمجيء إلى بيت مصعب,ثم التراجع عن قرارها. أيعقل أن يكون له صلة بالحريق؟؟لم يتمالك نفسه أكثر من هذا ..لذلك قرّر أن يخرج راكضاً وراءها .ربما لم تصل إلى منزل الدكتور بعد..
خرج مصعب من بيته مهرولاً ناحية بيت الدكتور لطفي,وعندما دخل إلى الشارع الذي يقع منزل الدكتور لطفي فيه ..فوجيءأن الخالة فوزية تقف في أوله .وكأنها تراقب شيئاً ما.. استغرب من هذا الأمر,لكنه اقترب منها ليستوضح منها ويفهم كل شيْ.اقترب منها وهو يلهث وقال:
– مرحباً يا خالتي.. خيراً إن شاء الله!!..
أجابت الخالة فوزية بارتباك:
– مَن مصعب!! أهلا يابني ..كيف حالك؟؟..
أجابها مصعب وهو مايزال لاهثاً:
– بخير والحمد لله..
سألت الخالة فوزية:
– خيراً إن شاء الله ؟؟مابالك تركض؟؟هل هناك شيء؟؟ .
أجابها مصعب:
– بل أنا الذي أردت أن أعرف ماسبب مجيئك لبيتنا.ثم عندما رأيتني عدلت عن قرارك.
استغربت الخالة فوزية..وقالت:
– أنا؟؟.لالا..لم أكن أقصد بيتكم..
أجاب مصعب:
– لكنّك كنت قريبة جداً من بيتنا.لقد لمحتك أمام الحديقة..وأريد أن أعرف لماذا اختفيت أول مارأيتني؟؟ .
تلعثمت الخالة فوزية لاتعرف بم تجيب ..فبدأت الشكوك تراود مصعب ..فسألها بشجاعة:
– خالة ..هل أنت متورطة بموضوع الحريق؟..أرجوك أجيبيني..هل ورّطك أحد بشيء ما ؟؟.
هزّت الخالة فوزية رأسها بالنفي قائلة:
– لا..لا. لقد فهمت الموضوع خطأ..ليس هناك شيء من هذا القبيل..
اقترب مصعب منها ..وقال لها بنبرة هادئة:
– ولكنّك مرتبكة ياخالة..أرجوك ماذا كنت تفعلين بالقرب من بيتنا؟؟هل كنت تراقبيننا؟.
ابتسمت الخالة فوزية.ولم تجد بدّاً من الهرب من الحقيقة..فقالت:
-كنت قد نويت أن أصارحك يامصعب بكلّ شيء.ولكن ليس قبل أن أتأكد.
سأل مصعب:
– ممّ؟.
أجابت الخالة فوزية:
-سأحكي لك كلّ شيء..ولكن علينا أولاً أن نسرع لحاوية النفايات الموجودة في أول الشارع ..
اندهش مصعب من طلب الخالة فوزبة..فسألها ساخراً:
-حاوية النفايات!!..ومادخلها بالموضوع؟؟.
سبقته الخالة فوزية وهي تحثّه على أن يتبعها ,,قائلة:
– لاوقت عندنا ..اتبعني للحاوية ..وبعدها نتكلّم.
أسرعا الخطى باتجاه بداية الشارع, حيث يقع بيت مصعب هناك ..قريباً من حاوية النفايات الكبيرة ,التي تتجمّع فيها نفايات الشارع الطويل, لتأتي السيارة الخاصة لجمعها.وعندما صارا قريبين منها ..تلفتّت الخالة فوزية يميناًويساراً..ثم تقدّمت إلى الحاوية ونظرت داخلها..لكن سرعان ماخابت آمالها ..وأصابها الإحباط..وكادت الدمعات تنهمر من عينيها ..لم يفهم مصعب لحد الآن ماذا يجري أمامه..فسأل:
– أرجوك ياخالة فوزية..ماذا هناك؟؟.
أجابت الخالة فوزية:
-للأسف يامصعب .كّنا على شفا الحقيقة .لكنّ كل شيء ضاع .
طلب مصعب من الخالة فوزية أن ترافقه إلى بيتهم ,ويجلسا في الحديقة الخارجية, ليفهم منها كلّ الأمور التي تتحدث عنها .ولتهدّيء من روعها.فوافقت الخالة فوزية, بشرط أن لاتتأخّر أكثر من ذلك.
وعندما وصلا إلى بيت مصعب .طلب من أخته زينب أن تأتي بكوب ماء ,بعد أن نشف ريق الخالة فوزية.وفي حديقة المنزل جلست الخالة فوزية تحكي لأمّ مصعب ومصعب وزينب وصالح.. ماجرى في بيت الدكتور لطفي بعد خروج مصعب وصاحبيه مباشرة.فقالت:
– يوم أمس وبعد خروجكم من منزلنا مباشرة..سمعت أن الدكتور لطفي اتصل بأزهر السائق, وطلب حضوره فوراً,وهو يصرخ ويزعق..صحيح كعادته .ولكن هذه المرة مع أزهر ..وهي المرة الأولى التي يرفع صوته على أزهر. لأن أزهر هذا يطيع الدكتور لطفي طاعة عمياء ..ينفّذ كلّ مايطلبه الدكتور دون أي نقاش.وبعد قليل ناداني ..فحضرت فوراً.. وإذا به يطلب مني أن أشتري له علبة كاكاو من محلات السعادة.وعندما أخبرته أن العلبة القديمة لم تنفد بعد .طلب مني نوعاً آخر, غير الذي اشتريته في المرة الماضية..عرفت حينها أنه يريدني أن أغادر البيت لأي سبب كان..وأمر الكاكاو حجّة فقط..أدركت مقصده, وخرجت من البيت..عدت بعد حوالي ربع ساعة.ولكن يبدو أن الدكتور لطفي لم يحسّ بعودتي.فقد كان صوته عالياً,بحيث استطعت أن أسمع بعضاً من الحديث الدائر بينه وبين أزهر السائق..ومن هذه العبارات:
– ((أي ساعة أحضرت السيارة إلى المطار؟)).
– ((لاأذكر بالضبط يادكتور..ولكن قبل موعد وصول الطائرة بساعتين تقريباً)).
– ((حاول أن تتذكّر ماذا كنت ترتدي ذلك اليوم ..وأي حذاء )).
– (( على الأغلب ..كنت أرتدي بدلة رياضية وحذاء رياضياً أيضاً..لأنّني أردت أن أرتاح أياماً من ملابس العمل))..
– ((أنت غبيّ ياأزهر..غبيّ..)).
وفجأة توقّف الدكتور لطفي عن صراخه.كأنّه قد أحسّ بعودتي..ثم خفّض صوته, بحيث صرت لاأسمع منه شيئاً..بعد دقائق خرج أزهر منزعجاً جداً ..وعاد بعد أقلّ من ساعة..وهو يحمل كيساً أسود..أردت أن آخذه منه, ظناً مني أنه شيء يخصّ البيت..لكنّه امتنع أن يسلّمني إياه..ودخل إلى مكتب الدكتور لطفي ..وخرج منه بعد لحظات ..سأل مصعب:
– وماذا تتوقّعين أن يكون داخل الكيس؟.
أجابت فوزية:
– لاأدري..ولكن انتظر ريثما أكمل بقية القصة..
تحلّق الأصدقاء حول الخالة فوزية وهم يستمعون منه إلى معلومات خطيرة..إذ قالت:
– في نفس الليلة..عندما كنت في فراشي.. أتقلّب ذلت اليمين وذات الشمال..أفكّر بكل ماسمعته ..وهل للدكتور لطفي علاقة بالحريق..وأشياء أخرى..وإذ بي أسمع صوت خطوات في الطابق السفلي..من البيت..وبالتحديد في الممرّ المؤدّي للباب الخشبي الكبير..نهضت لأتبيّن مايجري..قد يكون لصّ دخل المنزل .وصرت أنزل درجات السلّم ,درجة درجة, من غير أن أحدث صوتاً..فرأيت الدكتور لطفي يحتضن الكيس الذي أحضره له أزهر السائق.وكان يفعل مثلما أفعل.أي أنه كان حريصاً على عدم إحداث صوت ..كي لايسمعه مَن في البيت..حتى فتح الباب الرئيس ..وخرج..بصراحة.ازدادت شكوكي..فقرّرت أن أتبعه وأراقب تحرّكاته….فخرجت وراءه. ثم وقفت عند الباب الخارجي ..أراقب أين سيتوجّه..وعندما ابتعد مسافة كافية..تبعته..فرأيته يرمي بالكيس في حاوية التفايات التي ذهبنا إليها اليوم ..اندهشت من تصرّفه هذا ..وتساءلت مع نفسي عمّا يحتويه هذا الكيس ..فقرّرت أن أول شيء أفعله بعد خروج الدكتور من البيت, هو أن آتي للحاوية..وأستخرج الكيس ..قبل أن تأتي سيارة النفايات وتفرغها ..والباقي تعرفه يامصعب.
ضرب مصعب كفّيه ببعضهما..قائلاً:
– ضاع كلّ شيء..أنا متأكد من أنّ الكيس كان يحتوي على الحذاء الذي نبحث عن صاحبه..
صاح صالح:
– صدقت ..بعد أن أخبرناه أنه الدليل الذي يدين الفاعل..ياه ..كنّا سبباً في التستّر على الجاني..
تمتم مصعب:
– هل يعقل هذا؟؟هل يكون الدكتور مصعب هو من خطّط لهذا الحريق؟؟ومادخل أزهر السائق بالموضوع..؟؟
قالت أم مصعب:
– اسمع يامصعب وأنت ياصالح..المسألة لم تعد تتحمل الانتظار, سأتّصل بعمّكم ياسر..وعليه أن يتصرّف بسرعة.
نهضت أمّ مصعب لتّتصل بالنقيب ياسر..كما نهضت الخالة فوزية..وقالت موجّهة كلامها للجميع:
– يجب أن أعود فوراً قبل أن يعود الدكتور أويتصل , ويكتشف غيابي عن البيت ..ولكن ..أرجوكم ..كأنّكم لم تسمعوا شيئاً مني ..فأنا امرأة ليس لي في الدنيا سوى أن أربّي أولادي, وأوفّر لهم الحياة الشريفة.بعيداً عن أي منغّصات..لاأريد أن أدخل في سين وجيم..
هزّ مصعب رأسه قائلاً:
– أعرف ذلك ياخالة..توكّلي على الله.
* * *
ظهرت الحقيقة
اجتمع المغامرون من جديد في حديقة منزل مصعب بعد التطوّرات الجديدة ,والمعلومات الخطيرة التي أدلت بها الخالة فوزية.قال عبدالعزيز:
– لحسن الحظ..أنني أجّلت التحاقي بفريق كرة القدم للغد..
ثم ضحكت زينب قائلة:
– أما أنا فيبدو أنّني حصلت على نهاية رائعة للقصة التي بدأت بكتابتها.
نظر مصعب في وجوه الأصدقاء ..ثم سألهم:
– كيف تفسّرون ماحصل؟؟.
أجاب صالح:
– لحد الان لم تكتمل الصورة..ولاأدري ماسبب تأخّر عمّي ياسر,بعد أن اتصلت به أمي وأخبرته بما حصل:
وقالت محبة:
– لا أدري لماذا استبعدنا الأستاذ لطفي من شكوكنا..
أجابها زياد:
– لأنه المتضرّر الوحيد مما حصل .
ثم قال مصعب متحمّساً:
– آه ..لوكان الكيس مايزال في حاوية النفابات .لكنّا عرفنا مافيه..أنا متأكّد أنه حاول التخلّص من الحذاء, بعد أن عرف منّا بأنّنا صوّرناه ..وصار دليلا ًضدّ المتهم..
أجاب طارق:
– سأنهض لأعاود الاتصال بعمّي ياسر..يبدو أنه لم يأخذ كلامنا مأخذ الجدّ.
نهض طارق ليتصل بعمّه ياسر ,كي يحضر إليهم ليزوّدوه بمعلومات جديدة,أثارت شكوكهم حول الدكتور لطفي.وبعد أن اتصل طارق بعمّه ياسر ,عاد إلى أصدقائه في الحديقة ليخبرهم أن عمّهم مشغول بشيء مهم جداً ,وسيحضر إليهم بعد أقلّ من ساعة,وطلب منهم أن يبقوا في الحديقة ,ولايغادروها حتى يحضر إليهم.
قال مصعب:
– اتعرفون؟؟لو كنت في الشرطة وحصلت على هذه المعلومات الخطيرة .لكنت اتصلت من فوري بدائرة البلدية المسؤولة عن شارعنا ,لأستفسر منها عن السيارة التي تجمع نفايات شارعنا .ثمّ بسرعة أطلب من سائق السيارة عدم إفراغ النفايات ,حتى حضور الشرطة. وعندما نحضر ,أطلب من العمال أن ينبشوا النفايات حتى يعثروا على الكيس ..ثمّ ..ثمّ..
قاطعه طارق:
– والله عندك عقل يفكر تفكير ضابط شرطة حقيقي..اسمع..أول مايحضر عمّنا ياسر زوّده بهذه الخطّة ..أنا متأكّد أنه سينفذها بعد أن ينسبها إليه ..
ضحك الجميع ..وراحوا يتداولون الحديث بأشياء مختلفة ,بانتظار حضور عمّهم ياسر.
وبعد ساعة تقريباً كان النقيب ياسر يتوسّط أولاد أخويه ومن معهم من فرقة المغامرين..لينقل لهم خبراً كان كالصاعقة بالنسبة إليهم ..حيث أجابهم بعد أن ٍسأله مصعب عن سبب تأخّره في الحضور:
-كنت منشغلاً في متابعة قضية الدكتور لطفي ..حيث تبيّن لنا أنه هو من خطّط ودبّر لإضرام النار في مركزه الطبي .
سأل مصعب وهو يتلعثم بالكلام ..وكأنّه قد حقق مع المغامرين نصراً في هذه القضية:
– ماذا؟؟.تقول الدكتور لطفي؟..
أجاب العمّ ياسر مبتسماً:
– نعم..وهو الآن خلف القضبان لينال جزاءه.
فسأله مصعب:
– ولكن كيف استطعتم بهذه السرعة أن تلقوا القبض عليه؟فلم يمضِ أكثر من ساعة على الاتصال الذي أجرته معك أمي..
ضحك النقيب ياسر..وهو يقول:
– وهل تظنّ أننّا ألقينا القبض عليه معتمدين على معلوماتكم أنتم أيها المغامرون الأشقياء؟؟.
نظر الأصدقاء في وجوه بعضهم ..ثم أردف النقيب ياسر قائلاً:
– لفد أخبرتكم الخادمة فوزية بكلّ شيء..لكنها لم تخبركم بأن الدكتور لم يبت ليلته في بيته ..لأنه كان يحلّ ضيفاً عليناً ..
سأل صالح:
– أرجوك عمّي وضّح لنا ..
قال النقيب ياسر وهو يربت على أكتاف الأصدقاء تباعاً:
– لقد أدّيتم عملاً بطولياً.. وقدّمتم لنا مساعدة كبيرة..ولكن.ثقوا أنني كنت أراقبكم من بعيد, كيلا لا تقعوا في مأزق لا تحمد عقباه.. أشكركم يا أولاد..
سأل طارق:
– ولكن أرجو أن توضّح لنا كيف ألقيتم القبض عليه ؟.كنّا نعتقد أننّا نحن الذين أرشدناكم بمعلوماتنا التي حصلنا عليها.
قال النقيب ياسر موضّحاً:
– فعلاً.. لقد تبيّن لنا أن الأستاذ لطفي هو من أشعل النيران في مركزه الطبي, لينال مبلغاً فخماً من شركة التأمين.. بعد أن قام باستبدال الأجهزة الحديثة المؤمّن عليها,والتي لم تمضِ فترة طويلة على استيرادها, بأجهزة أخرى غير صالحة للاستعمال.
سأله صالح:
– وكيف عرفتم ذلك؟.
ابتسم النقيب ياسر وهو يقول:
– لقد سجّلنا إفادةعمّال مكتب الديكور , بعد أن راودتنا الشكوك في ذلك,حيث أخبرونا أنهم نقلوا الأجهزة والمعدات الطبية بعد أن غطوها بأغطية قماشية إلى منزل الدكتور لطفي , وبعد أيام قليلة, وعندما أعادوها إلى المركز بعد انتهاء عملهم ,تأكّدوا أن الأجهزة قد استبدلت , ولأن الأمر لايعنيهم في وقتها فإنهم لم يناقشوه .
فسأل مصعب:
– يعني عملية استبدال الأجهزة تمّت في بيت الدكتور لطفي ؟؟.
هزّ النقيب ياسر رأسه قائلاً:
– نعم .
ثم قال عبد العزيز:
– وحتى عملية إجراء الديكورات هذه كانت حجّة للدكتور لطفي, من أجل إخراج جميع الأجهزة خارج المركز .
ابتسم العم ياسر , وهو يؤشّر بسبابته ناحية عبدالعزيز:
– أحسنت ..فالدكتور لطفي وماعرف عن جشعه وحبّه للمال, لايؤهّله أن يصرف قرشاً واحداً, مالم يكن متأكداً بأن هذا القرش سيعود إليه أضعافا.
سألت زينب:
– والكيس الذي رماه في حاوية النفايات !؟.
أجاب النقيب ياسر:
– بعد ابتعاده بضعة أمتار عن حاوية النفايات, تمّ استخراج الكيس منها. لأنّنا كنّا نراقبه عن كثب. . وكان يخبّىء فيه الحذاء الذي استخدمه أزهر السائق ساعة أشعل الحريق.. بعد أن عرف منكم أن أزهز قد ترك آثاره في الحديقة.
سألت زينب:
– يعني أن أزهر السائق هو الذي أشعل النار في المركز فعلاً:
أجاب النقيب ياسر:
– طبعاً ..ولكن بناء على أمر من الدكتور لطفي..واختار له الوقت الذي يتزامن مع ساعة عودته,كي يشهد معه كل الناس أنه كان خارج البلد . .
قال مصعب:
– يعني أزهر السائق كان اليد المنفّذة.بينما الدكتور لطفي كان العقل المدبّر؟.
ضحك النقيب ياسر وهو يسمع من ابن أخيه هذه المصطلحات التي يتداولها منتسبو الشرطة.وقال:
– أحسنت يامصعب..ستكون في المستقبل ضابط شرطة ناجحاً إن شاء الله.
سألت محبة:
– وهل اعترف الدكتور لطفي ؟؟.
ابتسم النقيب ياسر قائلاً:
– ليس له إلا أن يعترف.. بعد أن قدّمنا له الأدلة التي تدينه.
وسأل زياد:
– وأزهر السائق؟..
أجاب ياسر:
– اعترف هو الآخر..وكان ينفّذ أوامر الدكتور لطفي تحت تهديد من الدكتور لطفي بالقتل..وبعد أن طمأنه بأن لاأحداً سيكتشف الأمر..كما أنه وعده بمكافأة مجزية, في حالة حصوله على تعويض شركة التأمين.
ثم سأل مصعب:
– والخالة فوزية,,ألم تستجوبوها,وتأخذوا منها المعلومات التي حصلت عليها؟.
ضحك النقيب ياسر قائلاً:
– لا..فالمعلومات التي حصلنا عليها..واللقاء الذي دار بين الدكتور لطفي وسائقه مسجّلة عندنا بالتفصيل.في حين لاتملك الخالة فوزية سوى بعض العبارات التي استطاعت أن تلتقطها من نهاية اللفاء.
سألت محبة عمّها ياسر عن ردّة الفعل التي أبداها الدكتور ياسر عندما داهمته الشرطة, وألقت القبض عليه..فابتسم العمّ وأجاب:
– الشعور بالندم طبعاً..أكثر المجرمين هكذا..لايعرفون التوبة إلا عندما يقعون في المحن..كان يردّد من بين القضبان ويقول: ((لقد أغراني الشيطان، وحبّ المال، وجعلني أنسى كل شيء،وصرت لا أفرق بين الحرام والحلال، بين الحقّ والباطل)).. واعترف أيضا أنه لابدّ أن ينال مايستحقه من العقاب.
ابتسم مصعب وهو ييستعرض الوجوه المبتسمة من حوله قائلاً:
– الحمد لله.. لقد ظهرت الحقيقة وهي تتوّج ما قمنابه من عمل…
وقالت زينب:
– ولكل بداية نهاية..وهذه هي نهاية مغامرتنا…
* * *
((تمت))